د. محمد سعد عبد اللطيف
في أي مرض كان، من الطبيعي أن تتساءل عن أسبابه وما إذا كنت معرضاً له. وكما هي حال العديد من الاضطرابات المعقدة الأخرى، لا يوفر الاكتئاب أجوبة بسيطة. فالمرض قد ينشأ لمجموعة منوعة من الأسباب. ولهذا السبب، نجد الاكتئاب شائعاً جداً.
لا تزال الأسباب الفعلية للاكتئاب قيد الدرس، لكن العلماء تعرفوا إلى عدد من عوامل الخطر- أي إلى أحداث وظروف تزيد من احتمال تعرضك للاكتئاب. وفي العديد من الحالات، ينجم الاكتئاب عن مجموعة من العوامل، وليس عن عامل واحد فقط.
تاريخ العائلة
إذا عانى شخص في عائلتك من الاكتئاب، لا يعني ذلك بالضرورة أنك قد تصاب به أنت أيضاً. لكن يبدو أن التاريخ العائلي للاكتئاب يزيد من خطرك. فقد تم إثبات ذلك في العديد من الدراسات التي راقبت الاكتئاب في العائلات. وأظهرت النتائج أن أقارب الدرجة الأولى- أي الأهل والإخوة والأولاد- لشخص مكتئب هم أكثر عرضة للاكتئاب من الذين لا يملكون تاريخاً عائلياً للاكتئاب. وقد ترتبط زيادة الخطر بالعوامل الوراثية أو البيئة أو الاثنين معاً.
تشير الأبحاث أيضاً إلى أن الأشكال الوخيمة من الاكتئاب والاكتئاب المبكر تميل عموماً إلى الانتقال في العائلات. ويدوم الاكتئاب الوخيم عادة لفترة طويلة من الوقت، ويعود مرات عدة وينطوي على أفكار الموت أو الانتحار.
العوامل الوراثية
تؤدي العوامل الوراثية دوراً في العديد من الأمراض البشرية. فالقابلية الموروثة لمرض معين تحدث حين تخفق جينة معينة في منح التعليمات الصحيحة لوظيفة الخلية. وقد يجعلك ذلك أكثر عرضة للمرض. كما تؤثر الجينات في وخامة المرض أو تفاقمه.
وعلى رغم التأكد من أن الشخص يستطيع وراثة الخطر المتزايد للتعرض للاكتئاب، يبدو أن زيادة الخطر لا تنجم عن جينة ناقصة واحدة. فهذه الزيادة مرتبطة على الأرجح بتفاعل جينات عدّة. بالإضافة إلى ذلك، يحتمل ألا تكون العوامل الوراثية كافية لاستهلال المرض، وتبرز عوامل أخرى في هذا المجال. فقد عثر الباحثون على أدلة تشير إلى إسهام عوامل وراثية وغير وراثية في الاكتئاب. بالفعل أظهرت الدراسات:
● إن الأولاد المتبنين الذين عانى أهلهم البيولوجيون من الاكتئاب هم أكثر عرضة للاكتئاب من الأولاد المتبنين المفتقدين إلى تاريخ عائلي من الاكتئاب. يوحي ذلك بوجود رابط وراثي.
● إن التوأمين المتشابهين، اللذين يتشاركان الجينات نفسها، يكشفان كلاهما عن إمكانية التعرض للاكتئاب أكثر مما يفعل التوأمان الأخوان اللذان يتشاركان فقط بعضاً من الجينات نفسها. يوحي ذلك أيضاً بوجود رابط وراثي.
● إنه بين التوأمين المتشابهين، حين يصاب أحد التوأمين بالاكتئاب، يعاني التوأم الآخر من الاكتئاب أيضاً في 40 في المئة فقط من الحالات. يشير ذلك إلى أن عوامل أخرى، مثل الضغط أو المرض، تؤدي دوراً في ذلك. فلو كانت العوامل الوراثية وحدها المسؤولة عن الاكتئاب، لكان الاحتمال 100 في المئة.
أوضاع مملوءة بالتوتر
ما من أحد يعيش الحياة من دون مشاكل. ورغم أن خسارات الحياة وصعوباتها قد تحثّ النمو الشخصي أو الروحي، فقد ترسلك أيضاً إلى دوّامة سحيقة. وينجم الضغط عن المشاحنات اليومية، مثل زحمة السير والمشاكل المالية، أو الأحداث الأساسية في الحياة، مثل انتهاء علاقة مهمة أو موت في العائلة. غير أن عيش حياة مجهدة لا يعني أنك ستصاب بالاكتئاب، لكنه يزيد من خطرك.
الموت والخسائر الأخرى
تعتبر الخسارة الكبيرة- أو حتى خطر الخسارة- أحد أبرز العوامل المسببة للاكتئاب. وينجح معظم الأشخاص في النهاية في تجاوز ألم الأسى والحزن، فيما يصاب آخرون بالاكتئاب. وغالباً ما ترتبط خسارة شخص محبوب بنشوء الاكتئاب. بالفعل، يصعب كثيراً على الولد الصغير التأقلم مع موت أحد الأهل. وثمة خسائر أخرى، مثل فقدان الوظيفة، قد تفضي أيضاً إلى المرض. واللافت أن الذين عانوا من الاكتئاب في الماضي هم أكثر عرضة للاكتئاب بعد مواجهة خسارة كبيرة.
مشاكل في العلاقات
يمكن للمشاكل في الزواج أو العلاقات الحميمة الأخرى أن تفضي إلى نوبة من الاكتئاب. ويعتبر الطلاق على وجه الخصوص أو فسخ أية علاقة مهمة أخرى سبباً شائعاً للاكتئاب. فحسب دراسة “مستجمع الزبائن الوبائي”- وهو استطلاع شامل شمل 18.571 شخصاً في خمس مدن أميركية- تبين أن الأفراد المطلقين أو المنفصلين هم عرضة لمرض عقلي مرتين أكثر من الأشخاص المتزوجين. صحيح أن العلاقات لا تمنع الضغط لكن يبدو أنها تعمل بمثابة واقٍ من تأثير صدمات الحياة.
أحداث أساسية في الحياة
يمكن لأي حدث مهم أو تغير كبير في الحياة أن يزيد من خطر تعرضك للاكتئاب، خصوصاً إذا كان لديك ميل موروث للاكتئاب. فتغيرات الحياة قد تراوح من النجاة من كارثة، مثل حادث سير مروّع، إلى عيش معالم مهمة وطبيعية، مثل سن البلوغ أو التقاعد. كما أن نظرتك الإجمالية للحياة تؤثر في كيفية تحملك لهذه التغيرات. فبعض الأشخاص قد يعتبرون التقاعد بمثابة نهاية وخسارة، مما يفضي إلى عوارض الاكتئاب، فيما يرحب آخرون بالتقاعد لاعتباره تغييراً إيجابياً.
تحديد أهمية المشكلة
لماذا يغوص بعض الأشخاص في الاكتئاب بسبب مشاكل أساسية في الحياة فيما ينجح آخرون في تجاوزها؟ هناك أسباب عديدة وراء ذلك، لكن أحد العوامل قد يكون أساليب تأقلم الفرد. فالأسلوب النشط الذي يحلّ المشاكل لا يفضي إلى الاكتئاب مثلما يفعل الأسلوب السلبي المركز على العواطف. وينطوي الأسلوب الإيجابي المتأقلم على:
- امتلاك شبكة اجتماعية قوية من الأصدقاء والعائلة
- محاولة أخذ الوضع من وجهة نظر إيجابية
- استعمال مهارات حلّ المشاكل لمعالجة الوضع
- مناقشة مشاكلك وهمومك مع الآخرين والحفاظ على الصداقات.
ضغوط العمل
تشهد الرسوم المتحركة الشعبية، مثل Dilbert، على الضغوط الشائعة والمغضبة للحياة العملية العصرية. ففي دراسات التأمين الحديثة، أشار نصف العمال الأميركيين تقريباً إلى أن عملهم مجهد جداً أو بإفراط، فيما قال أكثر من الربع إن الوظيفة هي أكبر مصدر للإجهاد في حياتهم. وحسب بعض الدراسات، تفقد الشركات نحو 16 يوماً سنوياً من إنتاجية كل عامل بسبب الضغط والقلق والاكتئاب.
كما تواجه الأمهات العاملات ضغط تأمين “الواجب الثاني”- إذ يفترضن غالباً أن المسؤولية الأساسية هي العمل المنزلي وتربية الأولاد. وحسب مركز أبحاث النساء في كلية ويلسلي، تبين أن إنجاب الأولاد يمنح الأمهات العاملات دفعاً عقلياً وعاطفياً، لكنه يزيد أيضاً من عملهنّ ومن عبء العائلة- ويزيد بالتالي من خطر الاكتئاب.
تجارب سابقة
إن الأشخاص الذين واجهوا أحداثاً مزعجة في الماضي، مثل سوء المعاملة خلال الطفولة أو معركة حرب أو مشاهدة جريمة خطيرة، هم أكثر عرضة للاكتئاب من الذين لم يعيشوا هذه التجارب قط. فالضغط المفرط قد يسبب عدداً من الاستجابات في الجسم مع تأثيرات طويلة الأمد في الصحة الجسدية والعقلية.
ففي دراسة شملت 10.000 شخص تقريباً، تبين أنه كلما عانى الشخص من تجارب مؤذية في الطفولة، ازداد احتمال تعرضه للاكتئاب. وثمة جوانب عدة من البيئة العائلية المضطربة قد تعرض الأولاد لخطر الاكتئاب تماماً مثل الإنسان الراشد. وهي تشمل:
● المستوى العالي من النزاع بين الأهل.
● العنف العائلي.
● سوء المعاملة.
● فقدان الأهل نتيجة الانفصال أو الطلاق أو الموت.
● مرض أحد الأهل.
حاول العلماء شرح الرابط الموجود بين الصدمات الماضية والاكتئاب. يتعلق هذا الرابط جزئياً بطريقة استجابة الجسم البشري للخطر والضغط. فعند مواجهة خطر حقيقي أو مدرك، يستعد جسمك لمواجهة التحدي (الهجوم) أو يستجمع القوة الكافية للابتعاد عن المشكلة (الهروب). وتنجم استجابة الهجوم أو الهروب عن إطلاق هرمونات تدفع جسمك إلى العمل على نحو أسرع. قد تؤثر هذه التغيرات في نشاط الدماغ، وتنبّه دماغك أكثر فأكثر إلى الضغط.
لكن الهرمونات تشكل جزءاً فقط من المعادلة. فقدرتك على التأقلم مع الضغط هي عامل أساسي آخر. فالأولاد يتعلمون بالأمثلة. وإذا لم تتعلم مهارات تكيف جيدة أثناء نموك، قد تكون أقل قدرة على التكيف مع الضغط حين تصبح راشداً، أو قد تعاني من ضغط أكثر من الشخص الذي يملك مهارات تكيف جيدة.
سوء المعاملة خلال الطفولة
يمكن لأي شكل من سوء المعاملة خلال الطفولة- سواء كان جنسياً أو جسدياً أو عاطفياً- أن يجعل الشخص أكثر عرضة للاكتئاب. فقد كشفت دراسة شملت 2000 امرأة تقريباً أن اللواتي يملكن تاريخاً من سوء المعاملة الجسدية أو الجنسية خلال الطفولة كشفن عن المزيد من علامات وعوارض الاكتئاب والقلق، وحاولن الانتحار أكثر من النساء اللواتي يفتقدن إلى تاريخ من سوء المعاملة خلال الطفولة.
فالنساء اللواتي تعرضن لسوء المعاملة أثناء الطفولة هنّ عرضة أربع مرات أكثر لاكتئاب مهم أثناء سن الرشد.
والواقع أن سوء المعاملة الجنسية خلال الطفولة قد يكون تجربة مدمرة. والمؤسف أن 6 إلى 15 في المئة من النساء عانين من أحد أشكال سوء المعاملة الجنسية خلال الطفولة. لكن سوء المعاملة الجنسية خلال الطفولة أقل شيوعاً بين الصبيان، علماً أنها موجودة ومسببة للأذى بالطريقة نفسها. وأثبت عدد كبير من الدراسات وجود علاقة واضحة بين سوء المعاملة الجنسية خلال الطفولة والاكتئاب في سن الرشد.
الضغط عقب الإصابة
يطلق عادة على هذه الحالة اسم صدمة القنبلة أو تعب المعركة. أما اضطراب الضغط عقب الإصابة فهو الاسم الحديث لهذه الحالة التي قد تصيب الأشخاص الذين عاشوا حدثاً مرعباً. وبالإضافة إلى المعارك العسكرية، يمكن للأحداث التي تسبب اضطراب الضغط عقب الإصابة أن تشمل الاغتصاب، والتعذيب، وحادث السير المروع والكارثة الطبيعية.
يعاني المصابون باضطراب الضغط عقب الإصابة غالباً من ارتجاع الأحداث، والكوابيس، ومشاكل النوم، واللامبالاة العاطفية، والجيشان العاطفي المفاجئ، وفقدان المتعة، وانعكاس الإجفال المبالغ، ومشاكل في الذاكرة والتركيز. ويكونون أيضاً أكثر عرضة للأمراض العقلية الأخرى، بما في ذلك الاكتئاب. وغالباً ما يحدث اضطراب الضغط عقب الإصابة والاكتئاب معاً.
النشوء مع مدمن على الكحول
أشارت بعض الدراسات التي قارنت أولاد المدمنين مع أولاد غير المدمنين أن أولاد المدمنين هم أكثر عرضة للمعاناة من عوارض القلق والاكتئاب. لكن الدراسات لم تعثر كلها على الاختلافات بين المجموعتين.
ويبدو أن العلاقة بين إدمان أحد الأهل على الكحول والاكتئاب عند أولاده معقدة جداً. بالفعل، يصعب فصل تأثيرات إدمان الأهل على الكحول عن عوامل اجتماعية ونفسية أخرى، مثل خلل العلاقات العائلية، أو اكتئاب أحد الأهل أو إصابته بمرض عقلي آخر، أو الصدمة، أو سوء المعاملة أو الإهمال في الطفولة.
عثرت الدراسات العائلية على معدلات مرتفعة من الاكتئاب بين أقارب المدمنين على الكحول. وقد ينجم ذلك عن شيوع أكبر لاضطرابات المزاج في مثل هذه العائلات، أو عن رابط وراثي بين الإدمان العائلي على الكحول والاكتئاب. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لضغط العيش مع عائلة مدمنة على الكحول أن يزيد من خطر الاكتئاب لأسباب غير مرتبطة بعوامل وراثية.
الاعتماد على المواد الكيميائية
إن الاعتماد على الكحول أو العقاقير قد يزيد من خطر تعرضك للاكتئاب. ويعاني 30 إلى 60 في المئة من الذين يواجهون مشاكل الإدمان- سواء على الكحول أو الأدوية الموصوفة أو العقاقير غير الشرعية- من اضطراب في المزاج أو القلق. وتبين أن 20 في المئة تقريباً من المدمنين على المخدرات مصابون بالاكتئاب أو عانوا من الاكتئاب في الماضي. وبين الأشخاص المدمنين على الكحول، تبين أن 30 في المئة منهم يلبون المعايير الطبية للاكتئاب. وعند تزامن الاكتئاب والاعتماد على المواد الكيميائية في الوقت نفسه، قد يكونان مرتبطين ببعضهما أو نجم أحدهما عن الآخر.
تساءل العديد من الباحثين ما إذا كانت وراثة الميل إلى الإدمان على الكحول والاكتئاب ممكنة. لذا، قام الباحثون في المعهد الوطني لسوء استعمال الكحول والإدمان على الكحول بتحليل معطيات استطلاع شمل 42.862 أميركياً تجاوزوا الثامنة عشر، ووجدوا أن التاريخ العائلي للإدمان على الكحول يزيد من احتمال تعرض الشخص للإدمان على الكحول والاكتئاب. كما أن الرجال والنساء الذين لديهم قريب مدمن على الكحول هم أكثر عرضة للاكتئاب من الذين لا يملكون أي قريب مدمن على الكحول. كما أن النساء اللواتي يملكن قريباً مدمناً على الكحول هنّ عرضة للاكتئاب أكثر قليلاً من الرجال الذين لديهم قريب مدمن على الكحول. ويعتقد الباحثون أن العوامل الوراثية التي تسهم في الإدمان على الكحول والاكتئاب قد تكون متداخلة، لكنها ليست نفسها.
الأدوية الموصوفة
إن الاستعمال الطويل الأمد لبعض الأدوية الموصوفة قد يسبب عوارض الاكتئاب عند بعض الأشخاص. وتشمل هذه الأدوية:
● عقاقير السترويد القشري، مثل البريدنيسون (دلتاسون، أوراسون).
● الانترفرون (أفونيكس، ريبترون) والعقاقير المضادة للالتهاب.
● بعض العقاقير الموسّعة للشعيبات المستخدمة لداء الربو ومشاكل الرئة الأخرى، بما في ذلك الثيوفيلين (سلوفيلين، ثيودور).
● المنبهات، بما في ذلك بعض حبوب الحمية، المستخدمة على المدى الطويل.
● الحبوب المنوّمة وبعض العقاقير المضادة للقلق (بنزوديازبين)، بما في ذلك ديابيزام (فاليوم) وكلورديازيبوكسيد (ليبريوم)، المستخدمة على المدى الطويل.
● إيزوترتينوين (أكيوتان)، وهو دواء مستخدم لمعالجة حب الشباب.
● بعض أدوية ضغط الدم والقلب، بما في ذلك عقار البروبرانولول (أنديرال).
● حبوب منع الحمل.
● العقاقير المضادة للسرطان، مثل التاموكسيفين (نولفاديكس).
كما أن التوقف المفاجئ عن بعض الأدوية، ولا سيما عقاقير السترويد القشرية، قد يفضي أيضاً إلى الاكتئاب.
حالات طبية
هناك العديد من الأمراض والحالات الأخرى التي قد تسبب عوارض الاكتئاب، على نحو مباشر أو غير مباشر. فبعض الأمراض الهرمونية مرتبطة مباشرة بنشوء الاكتئاب. وفي أنواع أخرى من الأمراض، يكون الرابط غير مباشر. فالتهاب المفاصل، مثلاً، قد يسبب الألم ويعيق نوعية حياتك. ويمكن لهذه العوامل بدورها أن تغير مزاجك ومظهرك، مما يسبب الاكتئاب.
الأمراض المرتبطة بالهرمونات
غالباً ما ترتبط مشاكل الغدة الدرقية بالاكتئاب. فالغدة الدرقية تنتج وتطلق الهرمونات التي تساعد على تنظيم حرارة جسمك، وخفقان قلبك وأيضك، بما في ذلك كيفية حرقك للوحدات الحرارية بفاعلية. وإذا أطلقت الغدة الكثير من الهرمونات (غدة درقية نشطة بإفراط)، يكون أيضك سريعاً جداً. وإذا أطلقت الغدة القليل من الهرمونات (غدة درقية غير نشطة)، يصبح أيضك بطيئا.
والواقع أن الغدة الدرقية غير النشطة (قصور الغدة الدرقية) قد تسبب الاكتئاب. لذا، يختبر العديد من الأطباء مستويات الهرمونات الدرقية بصورة روتينية قبل تشخيص الاكتئاب. وإذا كنت تعاني من قصور في الغدة الدرقية، يصف لك الطبيب دواء من الهرمون الدرقي للتعويض عن النقص. ويفترض بالعلاج عادة أن ينهي هذا النوع من الاكتئاب.
ثمة حالات أخرى تنجم عن الخلل في التوزان الهرموني وقد تسبب الاكتئاب أيضاً. وهي تشمل اضطرابات الغدة نظيرة الدرقية والغدد الكظرية (مرض كاشينغ ومرض أديسون).
مرض القلب
مثلما يزيد الاكتئاب من خطر تعرضك لمرض القلب أو لنوبة قلبية، فإن العكس صحيح أيضاً. بالفعل، تبين أن 30 في المئة من الذين جرت معالجتهم في المستشفى لمرض الشريان الإكليلي- أي انسداد في الشرايين المؤدية إلى القلب- يعانون من الاكتئاب. كما يصبح نصف الذين تعرضوا لنوبة قلبية مصابين بالاكتئاب.
السكتة
تحدث السكتة حين يتضاءل مورد الدم إلى دماغك نتيجة وعاء دموي مسدود أو مقطوع في دماغك. ويكون الأشخاص الذين تعرضوا لسكتة أكثر عرضة للاكتئاب. فهذا المرض هو أحد المضاعفات الأكثر شيوعاً للسكتة، ويصيب لغاية 40 في المئة من الأشخاص خلال أول سنتين بعد السكتة. لكن درجة إعاقتك الجسدية بعد السكتة لا تتطابق مع خطر تعرضك للاكتئاب. فالذين تعرضوا لإعاقة بسيطة يواجهون الخطر نفسه مثل الذين تعرضوا لإعاقة كبيرة.
قد يصعب تمييز علامات الاكتئاب وعوارضه عن تأثيرات السكتة، التي قد تشمل صعوبات في الذاكرة واضطراب وتعب. لكن التاريخ السابق للاكتئاب قد يزيد من خطر تعرضك للاكتئاب بعد السكتة. كما أن الاكتئاب يزيد من خطر الموت بعد السكتة.
السرطان
يؤدي السرطان عموماً إلى الاكتئاب. فمريض واحد من كل خمسة مصابين بالسرطان يتعرض للاكتئاب. وتكون هذه المعدلات أكبر عموماً بين المصابين بدرجة متقدمة من السرطان. فبين الأشخاص الراشدين المصابين بالسرطان الذين تتم معالجتهم في المستشفى، تراوح معدلات الاكتئاب بين 23 في المئة و60 في المئة. كما أن الذين يكشفون عن تاريخ من الاكتئاب هم أكثر عرضة للاكتئاب بعد التعرض للسرطان.
يبقى السرطان في أغلب الأحيان من دون تشخيص ومعالجة بين المصابين بالسرطان وذلك لسببين. فالحزن والأسى هما من ردات الفعل الطبيعية عند المعاناة من السرطان ويمكن أن يشبها الاكتئاب. كما أن العلامات والعوارض مثل فقدان الوزن والتعب قد تتداخل أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، يحاول الاختصاصيون الطبيون وعامة الشعب القول: “سوف أكتئب أيضاً إذا تعرضت للسرطان”، كما لو أن فهم هذا الرابط يعفي الأطباء والعائلة أو الأصدقاء من القيام بأي شيء حيال ذلك. فكر في هذا: إذا صادفت رجلاً ينزف بقوة بعدما جرح نفسه بمنشار، هل ستقول له: “سأنزف أنا أيضاً لو جرحت نفسي بمنشار” وتتابع من ثم طريقك؟ سوف تتجلى استجابتك على الأرجح في طلب المساعدة للرجل.
تبين أن معالجة الاكتئاب تساعد على تحسين المزاج ووظيفة جهاز المناعة ونوعية الحياة عند المصابين بالسرطان.
داء ألزهايمر
يكون الاكتئاب أكثر شيوعاً بين المصابين بداء ألزهايمر، وهو تلف تدريجي للدماغ يسبب فقدان الذاكرة والاضطراب. بالفعل، يعاني 40 في المئة تقريباً من المصابين بداء ألزهايمر من مزاج مكتئب، فيما يصاب 20 في المئة بالاكتئاب. أما العلامات الموحية بوجود اكتئاب عند شخص مصاب بداء ألزهايمر فتشمل التهيج والاضطراب. يمكن للمعالجة أن تخفف الاكتئاب، لكنها لن توقف تفاقم مرض ألزهايمر.
داء باركنسون
كما هي الحال في داء ألزهايمر، يعتبر الاكتئاب رفيقاً شائعاً لداء باركنسون الذي يصيب الجهاز العصبي وقد يفضي إلى الارتعاش وتصلب الحركة وانحناء الوقفة. ويصبح 40 إلى 50 في المئة من المصابين بداء باركنسون مكتئبين. وقد يكون فقدان الشهية واضطرابات النوم أكثر وخامة عند المصابين بداء باركنسون والاكتئاب.
ثمة دراسة دولية كبيرة، هي الاستطلاع الشامل لمرض باركنسون، درست العوامل التي تؤثر في نوعية حياة المصابين بداء باركنسون. وجدت الدراسة أن العامل الأكثر إزعاجاً وإعاقة هو الاكتئاب، وليس القيود الجسدية الناجمة عن المرض أو تأثيرات الأدوية.
ولاحظ الباحثون أن الاكتئاب يسبق غالباً نشوء داء باركنسون ومرض ألزهايمر، بعشر سنوات تقريباً في بعض الأحيان. ويرى الباحثون أن الاكتئاب قد يكون عامل خطر لهذين المرضين، على رغم عدم التوصل إلى رابط محدد.
انقطاع النفس الساد في النوم
يمتاز انقطاع النفس الساد في النوم بشخير قوي وأنماط تنفس غير منتظمة أثناء النوم. يتزامن الاكتئاب عادة مع انقطاع النفس الساد في النوم، وقد يتحسن كثيراً عند توفير المعالجة الصحيحة لاضطراب النوم.
الألم المزمن
غالباً ما يترافق الألم المزمن مع الاكتئاب. فالألم المستمر المصحوب بضغط يومي يفضي غالباً إلى فراغ عاطفي يصعب الفرار منه. وتشير الدراسات إلى أن نصف المصابين بألم مزمن يعانون من اكتئاب خفيف إلى وخيم.
أمراض وحالات أخرى
ثمة حالات طبية أخرى قد تزيد من خطر الاكتئاب، ومنها مرض الكلية، التهاب المفاصل الرثياني، أمراض الرئة المزمنة، الأيدز والتهاب فيروس نقص المناعة البشرية، ورم أو إصابة في الدماغ، إصابة في الحبل الشوكي، داء السكري، التصلّب المتعدد، الصرع ونقص الفيتامينات.
مسائل نفسية
هل الكوب نصف فارغ أو نصف ممتلئ؟ إن إجابتك على هذا السؤال يمكن أن تؤثر في خطر تعرضك للاكتئاب. فبعض مزايا الشخصية قد تجعلك أكثر عرضة للاكتئاب. بالفعل، قد تكون أكثر عرضة للاكتئاب إذا:
● كنت تحطّ من قيمة نفسك.
● كنت تنتقد ذاتك بإفراط.
● كنت متشائماً عادة.
● كنت تقع بسهولة تحت وطأة الضغط.
التفاؤل والتشاؤم
خلال الـ25 عاماً الماضية، أظهرت الدراسات أن الأشخاص المتشائمين يتعرضون للاكتئاب بسهولة أكبر من المتفائلين. كما يكشف المتشائمون عن صحة رديئة، ويستعملون نظام الرعاية الصحية على نحو أكثر تواتراً وقد يموتون قبل المتفائلين. ووجدت دراسة لمايو كلينك نشرت في شباط 2000 أن الذين يكشفون عن آراء متفائلة عموماً يعيشون حياة أطول وأكثر صحة من رفاقهم المتشائمين. وقد استطلع باحثو مايو كلينك مجموعة من الأشخاص الذين خضعوا لاختبار الشخصية قبل 30 عاماً وقارنوا نتائج اختبار كل فرد مع حياته الحالية ووضعه الصحي الراهن. ووجد الباحثون أن معدلات العيش بين المتفائلين كانت أفضل مما هو متوقع وأن المتشائمين أكثر عرضة للموت المبكر.
يميل المتشائمون إلى تفسير الأحداث السيئة على نحو مختلف مما يفعل المتفائلون. فهم يلومون أنفسهم ويعتبرون الأحداث دائمة: “سوف تدوم هذه المشكلة إلى الأبد وسوف تؤثر في كل شيء”. وفي المقابل، يرى المتفائلون غالباً الأحداث السيئة بمثابة أحداث محددة ومؤقتة يمكن التحكم فيها.
العجز المكتسب
حين يكون الأشخاص في وضع صعب، كما في علاقة مؤذية، يعتقدون أن جهودهم للتحكم في الوضع، أو تغييره أو التوقع به أو تفاديه لن تجدي نفعاً، مهما حاولوا. نتيجة ذلك، يتوقفون عن المحاولة ويصبحون عاجزين. قد يتحول هذا “العجز المكتسب” إلى استجابة شائعة لجوانب أخرى من الحياة، بما في ذلك العمل والعلاقات العائلية والمشاكل الصحية. ويعتقد الخبراء أن العجز المكتسب يجعل الفرد أكثر عرضة للاكتئاب.
أمراض عقلية أخرى
غالباً ما يترافق الاكتئاب مع أمراض عقلية أخرى. ويشير الأطباء غالباً إلى ذلك بالحالات المرضية المشتركة.
اضطرابات القلق
يقلق كل واحد منا بين الحين والآخر. لكن القلق قد يصبح ساحقاً ويعيق قدرتك على الاستمتاع والمشاركة في الحياة. والواقع أن القلق المبالغ أو الدائم هو أحد عوارض اضطراب القلق. وكما هي حال الاكتئاب، فإن اضطرابات القلق شائعة وتصيب 17 في المئة من السكان تقريباً.
يترافق الاكتئاب عادة مع القلق. فنحو 60 في المئة من المصابين باضطراب القلق يتعرضون أيضاً للاكتئاب. وتشمل أنواع اضطرابات القلق:
اضطراب القلق العمومي
يعاني المصابون بهذا الاضطراب من قلق مفرط يصعب التحكم فيه. وقد يترافق قلقهم مع الخوف من حدوث شيء سيء. وتشمل العوارض الأخرى الأرق، والتعب والصعوبة في التركيز والتهيج.
اضطراب القلق الاجتماعي
يكون المصابون باضطراب القلق الاجتماعي، المعروف أيضاً بالرهاب الاجتماعي، خائفين جداً من الأوضاع الاجتماعية. وقد يشعرون بالقلق عند اللقاء بالغرباء او التحدث على الهاتف أو حضور الحفلات. أو قد يخافون من وضع معين، مثل التحدث علانية أو التعرض للمراقبة أثناء الأكل. واللافت أن ثلث المصابين بالرهاب الاجتماعي يعانون أيضاً من الاكتئاب.
اضطراب الذعر
إن المزايا الأساسية لاضطراب الذعر هي نوبات الذعر والخوف من النوبة. فأثناء نوبة الذعر، تشعر بخوف مفاجئ وغير مبرر. وقد تشمل العلامات والعوارض الجسدية خفقان القلب، والتعرق، والارتعاش أو الارتجاف، والصعوبة في التنفس، وألم في الصدر، والغثيان، والدوار والوخز. وقد تظن أنك على وشك الجنون أو أنك ستموت.
أشار أكثر من ثلث الأميركيين إلى معاناتهم من نوبة ذعر في مرحلة ما من حياتهم. ويعاني المصابون باضطراب الذعر من نوبات ذعر متكررة. أما الاكتئاب فيصيب نصف المرضى باضطراب الذعر.
الاضطراب الوسواسي القهري
يعاني العديد من الأشخاص من أفكار وسواسية أو تصرفات قسرية في وقت ما. والوسواس عبارة عن أفكار تطفلية غير عقلانية تتردد على الدوام. أما التصرفات القسرية فهي طقوس متكررة مثل التحقق من إقفال الأبواب أو رفع غلاية القهوة عن النار. وبالنسبة إلى المصابين بالاضطراب الوسواسي القسري، تسيطر الأفكار الوسواسية والتصرفات القسرية على حياتهم وتعيق قدرتهم على العمل.
يقول المعهد الوطني للصحة العقلية إن هذا الاضطراب يصيب أكثر من 2 في المئة من الشعب الأميركي- أي بين 4 و6 ملايين شخص.
اضطرابات الأكل
يشيع الاكتئاب بين الذين يعانون من اضطرابات الأكل. فالأفراد المصابون باضطراب أكل قد يكشفون عن قابلية موروثة لهذا الاضطراب أو للاكتئاب، أو الاثنين معاً. وقد يسهم الاكتئاب في اضطراب الأكل، أو قد ينجم عن أحد الاضطرابات التالية:
القهم العصابي أو فقدان الشهية العصبي
يخشى المصابون بالقهم العصابي من السمنة كثيراً، وقد يفقدون الوزن إلى درجة سوء التغذية. والواقع أن عدم تناول ما يكفي من الطعام يحرم جسمك من الطاقة والمواد المغذية، مما يسهم في الاكتئاب.
النهام العصابي أو الشره العصبي
ينطوي النهام العصابي أيضاً على مشاكل في صورة الجسم والخوف من السمنة. لذا، نجد أن الأفراد المصابين بهذا الاضطراب يأكلون بنهم ومن ثم يتقيأون أو يفرطون في ممارسة التمارين للتعويض عن نهمهم. وقد يشعرون بالخجل أو الاشمئزاز من النفس، مما يفضي إلى الاكتئاب.
اضطراب الأكل المفرط
إن المصابين باضطراب الأكل المفرط يفقدون السيطرة على أكلهم، ويعانون غالباً من الاكتئاب. ويؤثر ذلك في احترامهم الذاتي، مما يجعل المزاج أكثر سوءاً ويفضي غالباً إلى نوبة أخرى من الأكل المفرط.
اضطراب تشوه الجسم
ينشغل المصابون باضطراب تشوه الجسم بعيب حقيقي أو وهمي في مظهرهم. وقد ينظرون في المرآة على الدوام، ويستعلمون الماكياج لتغطية “العيب” أو يخضعون لعدة عمليات جراحية تجميلية.
ويكشف المصابون باضطراب تشوه الجسم عن احترام ضئيل لذاتهم ويشعرون بالخجل وعدم الجدوى والعيب والحرج. ويمكن أن يصيب الاكتئاب ثلاثة أرباع المصابين باضطراب تشوه الجسم.
اضطراب الشخصية الحدّي (تقلب في المزاج)
إن المصابين باضطراب الشخصية الحدّي يخوضون عادة علاقات مخيبة وغير مستقرة، ويشعرون بخوف كبير من الهجر، ويكشفون عن نوبات كبيرة من الغضب والشعور بالفراغ. وقد يكشفون عن سلوك محفوف بالمخاطر، مثل المقامرة، وإنفاق المال من دون مسؤولية، وشرب الكحول بإفراط ومحاولة الانتحار.
والواقع أن هذا الاضطراب الصعب والمعيق في الشخصية يصيب النساء أساساً. ويترافق الاكتئاب والقلق عادة مع اضطراب الشخصية الحدّي، فيما يكشف المصابون بهذا الاضطراب عن تاريخ عائلي من مرض الاكتئاب. وتسبب مشاكل الشخصية غالباً مشاكل خاصة وعملية كبيرة يمكن أن تفضي بدروها إلى الاكتئاب.
وفي العقود الأخيرة، أثبت العلماء أن التغيرات في نشاط الدماغ والاكتئاب مترافقين. لكن العديد من التفاصيل لا يزال غير واضح. لا يعرف الباحثون بالتأكيد نوع الخطب في وظيفة الدماغ الذي يسبب الاكتئاب، ولا يعرفون ما إذا كان النمط هو نفسه على الدوام. فقد تكون هناك أسباب مختلفة عند أشخاص مختلفين.
والواقع أن سبب بقاء العديد من الأسئلة من دون إجابة يعزى جزئياً إلى كون الدماغ عضواً معقداً على نحو مذهل بحيث تصعب دراسته. ويحتمل أن توفر الأبحاث الكثيفة المزيد من المعلومات في السنوات المقبلة. في غضون ذلك، إليك بعض النتائج الأساسية التي ساعدت الباحثين والأطباء في فهم بيولوجية الاكتئاب على نحو أفضل.
العائلة، التبني ودراسات التوائم
يعتقد العلماء أن بعض الأشخاص يكشفون عن قابلية للاكتئاب، تماماً مثلما يكشف آخرون عن قابلية للسرطان أو مرض القلب. لكن ذلك لا يعني أنه إذا عانى أحد أهلك من الاكتئاب، ستكون حتماً عرضة له، وإنما يعني أنك ورثت جينة واحدة أو أكثر تزيد من خطر تعرضك للاكتئاب.
العائلات
تناولت العديد من الدراسات مسألة الاكتئاب في العائلات. ووجدت هذه الدراسات أن أفراد عائلة شخص مكتئب أو أصيب قبلاً بالاكتئاب يكشفون عن احتمال أكبر للتعرض للاكتئاب. وتشير التواريخ العائلية إلى أن الاكتئاب ينتقل عموماً من جيل إلى آخر.
التوأمان المتشابهان
توفر الأبحاث التي تتناول التوائم أكثر الدلائل إقناعاً بأن الاكتئاب يملك مكوناً وراثياً. فقد وجدت هذه الدراسات أنه حين يصاب أحد التوأمين المتشابهين بالاكتئاب، ثمة احتمال كبير أن يتعرض التوأم الآخر للمرض أيضاً أكثر مما يفعل التوأم الأخوي. والسبب في ذلك أن التوأمين المتشابهين يملكان التكوين الجيني نفسه، فيما يتشارك التوأمان الأخوان بعضاً من الجينات نفسها فقط.
لكن إذا عانى أحد التوأمين المتشابهين من الاكتئاب، لا يعني ذلك أن التوأم الآخر سيصاب حتماً بالاكتئاب أيضاً. فكما ذكرنا في الجزء الثاني، تبين أنه بين التوأمين المتشابهين اللذين يعانيان من الاكتئاب، هناك 40 في المئة فقط من الحالات التي يصبح فيها التوأمان معاً مصابين بالاكتئاب. ويشير ذلك إلى أن الجينات، على رغم أهميتها، مسؤولة جزئياً فقط عن المرض. فبالإضافة إلى التكوين الجيني، تؤدي العوامل البيئية دوراً أساسياً في نشوء الاكتئاب. لهذا السبب، يمكن أن يصيب الاكتئاب الأشخاص الذين لا يملكون أي تاريخ عائلي للمرض.
الأبحاث مستمرة
لم يتمكّن الباحثون لغاية الآن من التعرف إلى الجينات المحددة التي تزيد من خطر تعرض الفرد للاكتئاب، لكنهم ما زالوا مستمرين في البحث. ومن غير المحتمل أن تكون جينة واحدة مسؤولة عن الاكتئاب لدى معظم الأشخاص. فهناك جينات عدة مسؤولة على الأرجح. والواقع أن التعرف إلى الجينات المرتبطة بالاكتئاب لا يعني بالضرورة أن الأطباء سيتمكنون من الحؤول دون المرض، لكن المعلومات قد تفضي إلى تشخيص ومعالجة أفضل.
دراسات الهرمونات
أظهرت دراسات الأشخاص المصابين بالاكتئاب أن بعضهم يملك مقادير غير طبيعية من بعض الهرمونات في الدم. ويعتقد الباحثون أن الزيادة أو الانخفاض في إنتاج هرمونات محددة قد يعيق الكيميائية الطبيعية لدماغك مما يؤدي إلى الاكتئاب.
وباستثناء الهرمون الدرقي، لا يتم قياس مستويات الهرمونات الأخرى على نحو روتيني عند تشخيص الاكتئاب أو معالجته. لكن في بعض الحالات، قد يقرر طبيبك التحقق من مستويات هرمونات أخرى.
الهرمونات الدرقية
حين لا تعمل الغدد الدرقية كما يجب، يمكن أن ينجم عن ذلك نوع واحد او اثنان من المشاكل:
● إطلاق الكثير من الهرمون الدرقي (فرط النشاط الدرقي)
● إطلاق القليل من الهرمون الدرقي (قصور الغدة الدرقية)
ويمكن أن تؤدي الحالتان إلى الاكتئاب، لكن الاكتئاب يكون أكثر شيوعاً عادة مع قصور الغدة الدرقية.
الهرمونات الكظرية
تقع الغدتان الكظريتان قرب الكليتين وتنتجان هرمونات عدّة تؤدي دوراً أساسياً في نشاطات الجسم مثل الأيض ووظيفة المناعة واستجابة الضغط. وأظهرت الدراسات أن بعض المصابين بالاكتئاب قد يكشفون عن مستوى كبير من هرمون الكورتيزول الكظري في دمهم. والواقع أن فائض الكورتيزول يمكن أن يغير مباشرة وظيفة الدماغ او يغير التوازن الطبيعي للباعثات الكيميائية (الناقلات العصبية) في دماغك.
كما أن الاكتئاب هو عارض شائع لمرض كاشينغ الذي ينجم عن فائض في إنتاج الهرمونات الكظرية. وفي معظم الحالات، يكون الاكتئاب تأثيراً جانبياً للعلاج بالبريدنيسون، علماً أن البريدنيسون هو عقار شبيه بالكورتيزول مستخدم لمعالجة حالات الالتهاب، بما في ذلك الذأب الحمامي الشامل والتهاب المفاصل الرثياني وداء الربو. وعند انتهاء علاج مرض كاشينغ وعودة مستويات الكورتيزول إلى المعدل الطبيعي، أو عند تخفيف جرعة البريدنيسون أو التوقف عن تناول العقار، تتضاءل غالباً عوارض الاكتئاب أو حتى تختفي.
هرمونات الإجهاد
ثمة مساحة في دماغك اسمها “تحت المهاد” تنظّم إفراز الهرمونات. إنها تنتج وتطلق بروتينات صغيرة (ببتيدات) تؤثر في الغدة النخامية الموجودة في قاعدة دماغك. تعمل هذه الببتيدات على تحفيز أو قمع إطلاق الغدة لمختلف الهرمونات في دورتك الدموية. وحين يشعر دماغك بخطر محتمل، يوقظ ما يعرف بمحور تحت المهاد والغدة النخامية والغدد الكظرية. فهذه الثلاثة تؤلف معاً الجهاز الهرموني الذي ينظم استجابة جسمك للإجهاد. يطلق هذا المحور مجموعة منوعة من الهرمونات، بما في ذلك الكورتيزول، لمساعدتك على مواجهة الخطر أو الابتعاد عن طريق الأذى.
أشارت العديد من الدراسات إلى أن المصابين بالاكتئاب يكشفون عن نشاط متزايد لمحور الجهاز الهرموني. وقد يكون ذلك مشكلة حقيقية لأن بعض مساحات دماغك حساسة لنشاط هرمونات الإجهاد. والواقع أن الهرمونات الفائضة قد تعيق ذاكرتك وقدرتك على العمل. ويعتقد إن الزيادة في الكورتيزول والهرمونات الأخرى خلال فترات الإجهاد- ولا سيما خلال الإجهاد المزمن أو نوبة الإجهاد الوخيم- تحدث خللاً في الكيميائية الطبيعية لدماغك، مما يزيد من خطر تعرضك للاكتئاب.
الهرمونات الجنسية
يؤثر هرمونا الاستروجين (الأنثوي) والتستوستيرون (الذكوري) الجنسيان في كل شيء بدءاً من النشاط الجنسي وصولاً إلى الذاكرة. فهما يؤثران في كيفية شعورك، وكيفية تفكيرك وكيفية تصرفك. ويبدو أن الهرمونات الجنسية توفر أيضاً الحماية من مجموعة منوعة من الأمراض، بما في ذلك الاكتئاب. ورغم أن الروابط بين الهرمونات الجنسية والاكتئاب لم تفهم تماماً بعد، فإن المشكلة قد تبدأ عند بعض الأشخاص حين تنخفض مستويات هذه الهرمونات.
الاستروجين
تكون النساء أكثر عرضة للاكتئاب من الرجال، وقد يكون هرمون الاستروجين أحد الأسباب. بالفعل، يعتقد إن الاستروجين يعدّل نشاط الناقلات العصبية التي تسهم في الاكتئاب. وتشهد العديد من النساء اضطراباً في المزاج أثناء مرحلة الطمث من الدورة الشهرية. وتعاني بعضهنّ من اكتئاب عقب الوضع بعد إنجاب طفل، فيما تعاني نساء أخريات من الاكتئاب قرابة سن اليأس. ففي هذه الأوقات، تنخفض مستويات الاستروجين.
التستوستيرون
حين يصل الرجال إلى خريف العمر، قد يواجهون خطراً متزايداً للتعرض للاكتئاب. فالانخفاض في هرمون التستوستيرون الذكوري قد يكون عاملاً مسهماً. بالفعل، تصل مستويات التستوستيرون إلى أوجها عند الرجال في عمر العشرين ثم تبدأ بالتضاؤل ببطء. ويصبح هذا التضاؤل ملحوظاً جداً بعد عمر الخمسين. إلا ان المعلومات حول العلاقة بين التستوستيرون والاكتئاب ضئيلة جداً. وفي أفضل الأحوال، يشير الباحثون إلى وجود دليل على رابط بين مستويات التستوستيرون والاكتئاب عند بعض الرجال. لكن لا بد من تحديد أهمية هذا الرابط.
دراسات تصوير الدماغ
لقد سمحت تكنولوجيا تصوير الدماغ للباحثين بتجاوز التخمين لمشاهدة ما يجري فعلاً في الدماغ أثناء فترات الاكتئاب. فتقنيات التصوير المتطورة- ولا سيما التصوير الطبقي بانبعاثات الالكترونات الإيجابية- تتيح للباحثين مقارنة نشاط الدماغ خلال فترات الاكتئاب مع نشاط الدماغ في الفترات غير المكتئبة. وتجرى هذه المقارنة بمجموعة منوعة من الطرق، تشمل قياس استعمال الأوكسيجين وسكر الدم (الغلوكوز). فكلما ازداد نشاط مساحة من الدماغ، ازدادت حاجة الأنسجة إلى الأوكسيجين والغلوكوز.
تشير الدراسات التي قارنت مجموعات من المكتئبين وغير المكتئبين أن الأشخاص المكتئبين يكشفون عن نشاط أقل في بعض مساحات دماغهم مما يفعل الأشخاص غير المكتئبين. ويوحي ذلك بارتباط الاكتئاب بتغيرات في وظيفة بعض الخلايا.
وبفضل دراسات تصوير الدماغ، تمكّن الباحثون أيضاً من مراقبة القدرة الفريدة للدماغ على التغير، حتى في سن الرشد. فعلى سبيل المثال، تستطيع الصور التي تقارن نشاط الدماغ ووظيفته قبل وبعد أنواع مختلفة من العلاج أن تكشف عن اختلافات ملحوظة. وبالنسبة إلى الاكتئاب، يعني ذلك أنه بمساعدة المعالجة، يستطيع دماغك التغير للعمل بصورة أفضل.
البدايات الغنية تحفز دارات الدماغ
عند الولادة، يحتوي دماغك على تريليونات الخلايا العصبية التي تنتظر تلقي الأوامر والشروع في العمل. وفي حال استعمالها، فإنها تتصل مع خلايا عصبية أخرى وتصبح جزءاً من دارات دماغك. أما الخلايا العصبية غير المستعملة فقد تضيع.
تنضج مساحات دماغك في أوقات مختلفة. وحين تصل إلى سن المراهقة، تكون دارتك العاطفية ناضجة. لذا، يكون ما تتعلمه لغاية هذه المرحلة بالغ الأهمية. وتشير الدراسات إلى أن النمو في بيئة غنية- أي بيئة مليئة بالتفاعل الاجتماعي الإيجابي وفرص التعلم- يفضي عموماً إلى تركيبة ووظيفة أفضل للدماغ. وفي المقابل، يعتقد إن ذلك يفضي إلى قدرة أكبر على التأقلم مع الضغط والعواطف.
أما الأولاد الذين يعانون من سوء المعاملة أو الإهمال فيكشفون عن فرصة أكبر للتعرض للاكتئاب في سن الرشد. فالضغط والمخاطر المستمرة قد تعيق نشوء الدارات العاطفية. وحين يكون الولد شديد اليقظة دوماً بسبب الضغط- أي حين تبحث دارات أكثر من المعتاد على خطر وشيك- قد تنمو بعض مساحات الدماغ على نحو مختلف. وقد يجعل ذلك الولد أكثر حساسية للضغط والاكتئاب، حتى ولو في سنوات الرشد.
إلا أن تأثيرات الضغط المبكر الوخيم أو المستمر عكوسة لحسن الحظ. فقد أظهرت الدراسات أن الأولاد الذين عانوا من الصدمات في بداية الطفولة قد ينجحون إذا جرى وضعهم لاحقاً في بيئة غنية وعطوفة. كما يقتدي الأولاد بكيفية استجابة الكبار من حولهم للاكتئاب. فإذا كشف أحد الأهل أو أي شخص راشد آخر عن استجابات سليمة للإجهاد، يحتمل كثيراً أن يتعلم الولد هذه الاستجابات أيضاً.
دراسات الأدوية
في أغلب الأحيان، يعرف الباحثون الكثير من الأمور عن الأمراض عن طريق الصدفة. وثمة معلومة مهمة أخرى عن بيولوجية الاكتئاب تم التوصل إليها بفضل عقار اسمه الرسربين الذي جرى تطويره لمعالجة ضغط الدم المرتفع. فقد تبين أن عدداً من الأشخاص الذين تناولوا الرسربين أصيبوا بالاكتئاب. ولمعرفة سبب إحداث الرسربين للاكتئاب والحصول على فهم أفضل لكيميائية الدماغ أثناء الاكتئاب، درس العلماء تأثيرات العقار في نشاط الدماغ. وكشفت نتائجهم ونتائج دراسات العقاقير الأخرى وجود رابط بين الاكتئاب ومواد كيميائية اسمها الناقلات العصبية.
الناقلات العصبية في الدماغ
تخيل دماغك مثل شبكة كمبيوتر كبيرة، تكون كل مساحاته متصلة في ما بينها بجهاز معقد من خطوط النقل. والواقع أن خطوط النقل هي حزم الأعصاب. تحتوي أطراف هذه الحزم على ناقلات عصبية تعمل بمثابة باعثات معطيات بين الخلايا العصبية.
تطلق الخلايا العصبية الناقلات العصبية في فجوة صغيرة (نقطة اشتباك) بين خلية عصبية مرسلة وخلية عصبية مستلمة. يتصل الناقل العصبي بمستقبلة في الخلية العصبية المستلمة. وأثناء نقل المعلومات، تتحول الإشارات الكهربائية الصادرة من الخلية العصبية المرسلة إلى إشارات كيميائية توصل الرسالة إلى الخلية العصبية المستلمة. وحين ينتهي النقل، تحوّل الخلية المستلمة الإشارات الكيميائية مجدداً إلى إشارات كهربائية. يحدث الاتصال بين خلية وأخرى بسرعة كبيرة، بحيث يستطيع دماغك التفاعل بسرعة مع الرسالة.
الناقلات العصبية والاكتئاب
في السنوات الأولى من أبحاث الاكتئاب، جرى الاعتقاد أن الناقل العصبي النوربينفرين هو الناقل الأبرز المسؤول عن الاكتئاب. فهو يؤدي دوراً أساسياً في استجاباتك العاطفية ويقع في المساحات التي يتضاءل فيها نشاط الدماغ أثناء فترات الاكتئاب. واستنتج العلماء أن الاكتئاب ينجم عن تضاؤل مستويات النوربينفرين، وباشرت شركات العقاقير في تطوير أدوية مضادة للاكتئاب تعمل أساساً على زيادة نشاط النوربينفرين في خلايا الدماغ.
وفي الثمانينات من القرن العشرين، تم ابتكار مجموعة جديدة من الأدوية المضادة للاكتئاب- اسمها قامعات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائي (SSRI). أثّرت هذه الأدوية أساساً في الناقل العصبي السيروتونين. ومثل النوربينفرين، فإن السيروتونين هو منظم للمزاج موجود في مساحات الدماغ المتأثرة بالاكتئاب.
تؤدي مستويات النوربينفرين والسيروتونين- وتوازنهما مع بعضهما- دوراً في كيفية تفاعلك مع أحداث الحياة اليومية، مثل الشعور بالسعادة عند مشاهدة شخص محبوب أو البكاء عند مشاهدة فيلم حزين.
وفي الإجمال، يعدّل دماغك نفسه بحيث تتطابق عواطفك تماماً مع الوضع. لكن حين تعاني من الاكتئاب، قد يحدث خلل في مستوى النوربينفرين أو السيروتونين، أو الاثنين معاً. فقد يعلقان في نمط الحزن ويبقيان هناك. نتيجة ذلك، تشعر بالحزن طوال الوقت، حتى في الظروف التي تستمتع فيها عادة.
منظم المزاج في دماغك
يتأثر مزاجك وعواطفك بجزء من دماغك اسمه الجهاز الحوفي. يتألف هذا الجهاز من عدة تركيبات مترابطة في ما بينها، تعالج وتستجيب للرسائل الآتية من حواسك وأفكارك.
ثمة مساحة في دماغك ترتبط على نحو وثيق بجهازك الحوفي، ألا وهي غدة تحت المهاد التي تنظم إطلاق مجموعة منوعة من الهرمونات في دورتك الدموية. تؤثر هذه الهرمونات في جوانب عدّة من حياتك، بما في ذلك النوم والشهية والرغبة الجنسية وتفاعلك للضغط. ولهذا السبب، قد لا ينام المصابون بالاكتئاب بصورة جيدة أو يكشفون عن شهية قليلة. يوجد إذاً رابط بيولوجي.
0 Post a Comment:
إرسال تعليق