د.سليمان قديح
ظهر التوجيه والإرشاد منذ العصور القديمة، ويقوم به أفراد المجتمعات دون أسس أو أساليب علمية، أو مبادئ، أو طرق، أو مجالات، وإنما كانوا يقومون به على الفطره، حيث يحكي شخص لآخر ما يواجهه من مشاكل مع زوجته أو أطفاله أو في عمله أو مع نفسه، فيقوم الآخر بمناقشة الموضوع ويحاول تقديم النصائح والإرشادات التي قد تعينه على التخفيف من المشاكل التي يتعرض لها.
وفي حالة نجاح تلك الإرشادات، تزداد العلاقة بين الطرفين، والثقة المتبادلة والاحترام المتبادل، وكلما مر الشخص بأي صعوبة، فإنه يلجأ تلقائياً للشخص الآخر الذي وثق به لينتصح به، وهكذا صارت الأمور إلى حين أن أتى الإسلام، وجاء بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي دعمت التوجيه والإرشاد، وجعلته أحد أساليب التعامل بين المسلمين. فالإرشاد عملية اجتماعية فطرية ركزها الله في المخلوقات فيما يتعلق بحفظ النفس وحفظ النوع وحفظ الصحة والسلامة، ويتفاوت الناس في بعض جزيئاته فيكون بعضه بالتعليم والتعلم، أو بالتدريب، أو بالتربية، على نحو من الأنحاء .
فالإرشاد يعمل على التوحد والتعاون والتكافل والاحترام المتبادل ورفع الروح المعنوية وتعديل السلوكيات الخاطئة وتعزيز الصحيح منها وتوفير الاستقرار النفسي والطمأنينة وتبيان الطريق الصحيح الذي يسلكه الفرد، والابتعاد عن الشر، وقال تعالى: " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " ( النحل: 125)، وقال جل شأنه: " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ " ( آل عمران: 104)، وقال المولى عز وجل: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً " ( الأحزاب:45-46). و قد كان الرسول المعلم الأول والمربي والموجه والمرشد حيث قال تعالى: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ"(الجمعة:2). و قال جل شأنه: " الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ " ( الزمر:18 ). وقال سبحانه تعالى: "وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِه" (الإسراء:97). وقال المولى عز وجل: " إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً " (الكهف:10). وقال تعالى:" قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً " (الكهف:66). وقال تعالى في أم الكتاب: " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ " (الفاتحة:6-7). وبدأ التوجيه والإرشاد بأخذ المفهوم العلمي في عهد الرسول. حيث روي أن رجلاً لحن في مجلسه فقال رسول الله “أرشدوا أخاكم..." المستدرك من الصحيحين (عبد القادر عطا، 1990: 477).
و قد ورد على لسان الرسول مجموعة من الأحاديث النبوية و التي لها اتصال مباشر بالتوجيه و الإرشاد :" كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه ، يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه" رواه الشيخان، صحيح البخاري (ديب مصطفى البغا،1987: 465) "ولأن يؤدب الرجل ولده خيراً من أن يتصدق بصاع " رواه الترمذي. (أحمد محمد شاكر، د.ت: 334)
وقال صلى الله عليه و سلم " لأن يهدي بك الله إنساناً خير لك من الدنيا وما فيها “ رواه البخاري(مصطفى ديب البغا، 1987: 1357). وكما قال" كلكم راعي و كلكم مسؤول عن رعيته " رواه مسلم، ( محمد فؤاد عبد الباقي، 1990: 1459).
و قال الرسول " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم، (حسين سليم أسد، 1984: 511)
كما كان لعلماء العرب والمسلمين السبق الأول في ريادة التوجيه والإرشاد، فقد نادى ابن سينا إلى توجيه الطفل إلى المهنة التي تتفق مع ميوله، وهو ما يسمى بالتوجيه المهني، و نادى الإمام الغزالي بأن يعمل المعلم على " تهذيب سلوك المتعلم "، وهو ما يسمى اليوم بتعديل السلوك. و قد أكد الزرنوخي على استعداد المتعلم لتعلم موضوعاً جديداً مراعياً في ذلك التحصيل الأكاديمي الأفضل،وهو ما يسمى اليوم بالسلوك المدخل(محمد جواد الخطيب ، 1998:9).
يقول ابن الجوزي " إن الشباب أمانة عند آبائهم، وإن قلوبهم كجوهرة ساذجة قابلة لكل نقش، فإن عودهم آبائهم الخير نشئوا عليه، إن عودهم الشر نشئوا عليه، فينبغي أن يعودوهم ويؤدبوهم ويهذبونهم ويعلمونهم محاسن الأخلاق ولا يعودهم التنعم والرفاهية، فيضيع أعمارهم في طلبها إذا كبروا " (حمدي شاكر محمود، 1998: 117 ).
0 Post a Comment:
إرسال تعليق