د. مرسلينا شعبان حسن
التّعريف بالمفهوم :
يكاد الغضب أن يكون سمة انسانية عامة ، إذ لا يوجد أحد لم يعش الغضب، عبر اختبار أحاسيسه التي تبدأ من الضيق البسيط انتهاءً ببركان نوباته العارمة.
قد يكون الغضب سلوكاً انفعالياً طبيعياً ، صحياً ولكن وفق معايير معينة من كونه عاطفة بشرية ، كما عرّفه عالم النفس الامريكي (تشارلز سبيلبيرجر)
بأنه : "احساس أو عاطفة شعورية تختلف حدتها من الاستثارة الخفيفة انتهاءً إلى الثورة الحادة"
وهذه العاطفة الجياشة مثلها مثل الأحاسيس الأخرى تصاحبها تغيرات فسيولوجية وبيولوجية أخرى، فنجد معها تغير في حالة عضلة القلب وارتفاع في ضغط الدم، كما تزيد معدلات إفرازات هرمونات الطاقة من الإدرينالين وغيرها من الهرمونات الأخرى كما أن الشخص يصدر استجابة الغضب لإحساسه بالتّعدي على كرامته الأمر الذي يؤدى إلى الرفض والصراع والخلاف ، وهذا الصراع قد يكون له ثوابت حقيقية أو من خيال الشخص .. وقد يكون له جذور في الماضي أو نتيجة لخبرة حالية أو من المتوقع حدوثها في المستقبل .
من حيث أن الانفعال موجود في أساس الحياة الإنسانية ، والعضوية تبحث دائما عن استبعاد الحالات التي تُعرّض توازنها للاضطراب، وذلك إما بتجنب الحادث المنفر أو بمواجهته .
ويعتمد الغضب بدرجاته المختلفة على إدراك "التهديد" الذي يكون إما نتيجة للصراع أو الإحساس بعدم العدل، الإهمال، أو الإذلال وبذلك يكون سلوك الغضب هنا دلالة لسلوك عاطفي ايجابي متفاعل ، ولكن في حال وصل الإنسان إلى نقطة عدم التحكم بتعبيراته العاطفية السلبية الحادة فقد يصبح الغضب مدمراً ، ويؤدى إلى مشاكل عديدة : في العمل ، و في العلاقات الإنسانية القريبة منها والبعيدة .
والتأثير السلبي الذي لا يظهر ، ويظل كامناً داخل الشخص ، ويعبر عنه بإصدار العداء تجاه الآخرين ، أما التأثير الإيجابي منه .
فهو الذي يظهر ويكون في صورة تعبير منطقي ،عما يحل بهذا الشخص من غبن و تعثر في الوصول لم يريده .
كل طفل يولد وفى داخله حافز ذاتي ودائم يدفعه ليتعلم ، ويمارس وينجح في آلاف المهام الصغيرة التي تساهم في نموه .
وفى حين أن كل طفل يولد بهذا الحافز الذى يدفعه إلى التعلم ، فإن الأطفال يختلفون من حيث سرعة الغضب الذى يتملكهم حين يفشلون في الاستجابة لهذا الحافز ، ومدى عنف ردة الفعل الناتجة عن ذلك الفشل .
فمن الأطفال من يستمر في صبر ودأب في محاولة حل مشكلة ما ، ومنهم من يستسلم للفشل بسرعة ... ومن الأطفال من يعترف فيما بعد بفشله وينتقل بتأني إلى القيام بعمل آخر ، ومنهم من يتأثر كثيراً بالفشل الذى يدفعه لأن يعبر عن ذلك بصرخة أو نوبة غضب ، وبالطبع فإن خيبة أمل الطفل وقوة احتماله تختلفان من يوم إلى يوم ، ومن مرحلة إلى أخرى .
حيث أن الطفل الذى أصيب بالإحباط ، وانطلق بالصراخ نتيجة لم أصابه ، إنما يفعل ذلك لأنه يحاول ، والمحاولة هي طريقه إلى التعلم وتبعا لذلك فان لم تتم التنشئة للأطفال وفق قواعد تفريغ الطاقة بتوفير اساليبَ للتعلم مرضية تنمي الاستعدادات والفضول ، يكون الاطفال مستقبلا مهيئين لكل اشكال الغضب الغير سوية وفقاً لخاصية السلوك اللاواعي بعودة المكبوت (Breakthrough) ..
تتخذ نوبات الغضب أشكالاً عدة من الاندفاع بهياج ويجرون من مكان إلى آخر ، وهم يصرخون ويصطدمون بأثاث المنزل ... والبعض الآخر يلقون بأنفسهم على الأرض ، ويتقلبون ... ويستخدم آخرون أي أداة تقع في أيديهم لضرب الأشياء الواقعة في متناول أيديهم ، إذ قد يضربون رؤوسهم بالحائط إذا لم يكن هناك من بديل لتفريغ طاقة صخبهم هذه ..
فمن يستثيره شعور غاضب نجده يفقد الصلة بينه وبين عالم الوعي للمحيطين به ، لذلك فأن محاولة زجره وأمره بالكف عما يفعل ، لا يسمعها ولن يستجيب لها ..
إذ يمر الإنسان أثناء غضبه بمشاعر عديدة ، تظهر صفات تعكس عدم رضاه عن موقف ما قد تعرض له ..
وكونه لكل سلوك دوافعه وأسبابه فمن المهم لنا التدقيق في اسباب السوك الغاضب :
وهذه الأسباب قد تكون خارجية أو داخلية ، من جراء التعرض لخبرات تحفزه على الضيق من مثل :
فقد يرجع الغضب إلى أسباب كالقلق و الالم والخوف وعدم الأمان والتعنيف ، التي تكثر حالاتها في حياتنا اليومية لاسيما في الفترة الحالية وفي السنوات الأخيرة بخاصة ، كما أن الجوع من مسببات الغضب كما يلاحظ عند الكثيرين في أيام الصيام ، وأيضا المرض والاستثارة الجنسية والعجز عن تلبيتها ، كما أن العجز عن اتمام العملية الجنسية ايضاً من دواعي استثارة نوبات الغضب ، وإطالة التفكير في الأمور الخاصة والعائلية أو التمعن في ذكريات مؤلمة تثير مشاعر العجز عند استرجاع الإنسان لها ، وما يتصل بالتغيرات الهرمونية المرتبطة بالدورة الشهرية ، أو الوصول إلى سن انقطاع الطمث ، كما تنتاب الانسان نوبات من الغضب في حالات الانسحاب من تأثير مخدر ، وفي حالات بعض الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب ثنائي القطب .
- والغضب قد يكون كسلوك تمرد لرفض الظلم او سلوك ثوري لتفعيل الايجابية في الحياة رغم تبعات ذلك ، من حيث أن السلوك هذا قد يكون مواجهة لمصدر ألم عميق لم يتم تجاوزه .
فالغضب مطلوب وضروري من أجل أن يحيا الإنسان حيث يجد من خلاله متنفساً لضغوطه ، وعلى الجانب الآخر، التحذير واجب لأن تكون ممارسة العنف مع الأشخاص الذين تعرضوا للضيق
ومن ثم الغضب ، ان يصنفوا كمجرمين ..
فالغضب ليس سلوك اجرامي أو حتى عدائي ، وإنما هو سلوك يتسم بالقوة وهو غضب صحي قوامه إخراج المشاعر الثورية الرافضة للقمع والكامنة داخل نفس الشخص ، وبالتالي عدم تعرضه للضغوط المدمرة لكي يقوم هذا الشخص بالتعبير عن غضبه قد يحوله لشخص عنيف سلوكه خطير على نفسه قبل غيره ، لذا من الجيد أن تحدد احتياجات مثل هكذا شخص تتسم تعبيراته الانفعالية بالحدّة ، وكيف يلبيها بدون أن يتسبب بأذى الآخرين ، وليكون الانسان حازماً ويحترم الضوابط على نفسه لابد ان يحترمها بالتالي لدى الآخرين .
حالات الغضب :
يمر الشخص بعمليات إدراكية واعية وغير واعية أثناء التعامل مع خبرة الغضب :
1- التعبير عن الغضب بحرية .
2- كبح الغضب وضعف المقدرة على التعبير .
3- الغضب الهادئ المقترن بالخوف
من الممكن كبت الغضب وكبحه لكن هذا الشكل خطير للغاية، لأن الإنسان لا يستطيع التعبير عن مشاعره وإخراجها وبالتالي نشهد تراكم الأحاسيس السلبية داخل النفس وترجمتها في صورة ضغط دم مرتفع ، واكتئاب وغيرها ... .
وعندما يقع الإنسان في هذا الفشل من التعبير عن غضبه، يبدأ تكيف الشخص مع هذا الكبت في إصدار السلوكيات العدائية تجاه الآخرين لأنه ليس لديه القدرة على المواجهة ، وبالتالي يفشل في إقامة علاقات اجتماعية ناجحة .
كيف يحدث الغضب ؟
ان مركز عواطف الإنسان هو المخ و الجزء من المخ المسؤول عن التعبيرات العاطفية المتصلة عن تحديد المخاطر التي يواجها أي شخص هو الذي يسمى ب(Amygdala)، وهذا الجزء من الدماغ مسؤول أيضا عن إرسال التنبيهات والإنذارات عندما يتم التعرّف على المخاطر.
وهذه المخاطر تصلنا قبل أن تصل إلى قشرة الدماغ
(Cortex) التي تبحث في منطقية رد الفعل وبمعنى آخر : المخ هو شبكة العمل الذي يؤثر على الفعل قبل أن يتم التفكير في عواقبه بشكل منطقي ، لذلك عندما يخوض الإنسان تجربة الغضب تتوتر عضلات الجسم، بالإضافة إلى قيام المخ بإفراز مواد تسمى ب (Catecholamines) التي تتسبب بالشعور بوجود دفعة من الطاقة تستمر لعدة دقائق، وفى نفس الوقت تتزايد معدلات ضربات القلب، يرتفع ضغط الدم، تزيد سرعة التنفس، ويزداد الوجه حمرة لاندفاع الدم الذي يتخلل الأعضاء والأطراف استعداداً لرد الفعل
الجسدي، وبعد ذلك يفرز المخ المزيد من المواد وهرمونات الإدرينالين التي تطيل من مدة بقاء الإنسان في حالة من التوتر.
والملاحظ في معظم الأحيان أن تتوقف ثورة الغضب هذه عند حدّ معين قبل أن تخرج عن نطاق السيطرة والتحكم .
والقشرة الخارجية للمخ والتي تقع في مقدمة الجبهة (Prefrontal cortex) تجعل العواطف في حالة تناسب، فهذا الجزء بعيد كل البعد عن العواطف ويقوم بدور تنفيذي من أجل الحفاظ على كافة الأفعال في حالة اتزان وتحت السيطرة .
وتفسير آخر أكثر توضيحاً لطريقة تحكم المخ في عملية الغضب هو أن (Prefrontal cortex) لها السيطرة العليا على (Amygdala) ، وهذا معناه إذا كانت (Amygdala) تتعامل مع العواطف فإن (Prefrontal cortex) تتعامل مع الأحكام .
ولما كان للغضب هذه المرحلة من إعداد فسيولوجية سابقة على حدوثه ، يستعد فيها الجسم لشن الهجوم ، كما توجد أيضاً مرحلة أخرى تسمى بمرحلة "هدوء العاصفة" حيث يستعيد الجسم فيها لحالة الاسترخاء الطبيعية عندما يزول مصدر الثورة أو التهديد ، ومن الصعب العودة إلى الحالة الطبيعية للإنسان التي كان عليها قبل التعرض للغضب في وقت قصير ، لأن هرمون الإدرينالين الذي يفرزه الجسم أثناء خبرة الغضب يجعل الشخص في حالة يقظة تستمر لفترة طويلة من الزمن (تتراوح من ساعات وأحيانا تمتد إلى أيام) كما تقلل من قدرة الإنسان على تحمل الغضب والاستجابة لمثيراته بسهولة، بل وتجعله عرضة لنوبة جديدة من نوبات الغضب فيما بعد حتى وإن كان الأمر تافهاً.
ويكون تبعا لم سبق التحكم في الغضب ، وفق إدارة عاطفة الغضب من خلال التخفيف من حدة الأحاسيس، والتأثير النفسي الذي تحدثه مسببات الغضب ، وإن لم يكن بمقدور الإنسان أن يتجنب المواقف وربما الاشخاص الذين يثيرون غضبه ، فقد يكون من الممكن له أن يتعلم كيف يتحكم في ردود فعله وتصرفاته ، وهذه بحدّ ذاتها ثقافة وتربية مكتسبتين عبر التنشئة .
0 Post a Comment:
إرسال تعليق