من طفلي أتعلم

د. هاني حجاج
hany_haggag@hotmail.com

ربما كان أعظم درس يعلمنا إياه الأطفال هو الحب غير المشروط، إذ أننا أحياناً كثيرة ما نبالغ في توجيه اللوم لهم، إلا أنهم يعودون ليطوقوننا بأذرعتهم، ويبثون فينا دفئهم ولسان حالهم يقول "لا بأس يا أمي ... لا بأس يا أبي ... أننا نحبكما عندما تكونان لطيفان معنا ... وحتى عندما تكونا غاضبين منا، فأننا دوماً في حاجة إلى تواصلكم معنا ... بالحب والحنان ... أو حتى باللوم" ... فأن الأطفال مميزون في البصيرة القلبية. ونحن البالغين نحتاج إلى الأطفال أحياناً لكي يكشفوا لنا أموراً تحول عنا خداقتنا دون رؤيتها؛ ففي انفتاحهم على الحية يذكروننا أحياناً بالأمور الجوهرية ... فحدث أن اقتنت طفلة في السابعة من عمرها سمكن ذهبية، لم تعب من مراقبتها وهي تسبح وكانت تنادي أمها لتري كيف ترسل إليها السمكة قبلات بفمها المتغضن، وكانت هذه السمكة هي أول من يلقي تحية من الطفلة عند عودتها من المدرسة، ولطالما سمعها والدها تخبر السمكة بأسرارها وإحداث يومها وحكايات زميلاتها وذات يوم سألت هذه الطفلة أمها: "هل تنام الأسماك؟". وكانت سمكتها ممدة على جانبها في قعر حوض السمك الصغير. فبكت الابنة بمرارة وحرقة بين ذراعي أمها حتى لتمنت الأم لو لم تتعلق الطفلة بها كثيراً. ولكنها سرعان ما مسحتي الطفلة عينيها بكمها وقالت: "على الأقل كانت مي بعض الوقت". ورأت الأم عندئذ في عيني أبنتها الجمال والنمو اللذين يأتيان من الحب النابع من الصميم، وكانت الأم قد تعلمت أن تحاذر الحب خوفاً من الجرح العاطفي، لكن ما قاله لها قلب طفلتها "أن الحب يفرح بقدر أكبر مما يؤلم الجرح" فتعلمت الأم من ذلك اليوم أن نفتح قلبها على الدنيا والناس وتعلمت أكثر أن تحب ولازالت تذكر أن جرأة أبنتها الطفولية هي دافعها الأساسي. الكثير من صفاتنا الحسنة تندثر وتموت بداخلنا عندما يتقدم بنا العمر، ولكن ليس من المحتم أن تموت هذه الخصال الطيبة عندما نكبر؛ فيمكننا إن نحافظ على روح الطفولة فينا بأنفتاضا على الدروس التي يعملنا إياها الأطفال كل يوم.
وتأتي غرائز أبناءنا عفوية وبسهولة ويسر، فهي إذن بحاجة إلى رعايتنا والاهتمام بها وصقلها حتى تكون نتائجها إيجابية ذات تأثير فعال وبناء على أطفالنا الناشئين، وألا نحاول أن نخدش هذه البذور الصغيرة التي ستصير أشجار المستقبل، فالطفل بعكس الشخص البالغ؛ إذا ما وجهت له إهانة أو لوماً في غير محلة، فإنه لا يتبين خلفيات هذه الإهانة ولا يحلل انتقادك له تحليلاً واعياً، كما أنه لا يستطيع أن يتحدي منتقديه، لكنه يحتفظ بالجرح داخله ويصبح عائقاً أمام نموه السليم سواء من الناحية النفسية أو الأخلاقية.
ثانياً: إن الساعات الطويلة الروتينية في المكتب قد تفقدنا بهجة الحياة. ولا يسعنا أن نتجاهل متطلبات العمل، لكننا نستطيع تلوين يوم عملنا بقليل من المرح مع أطفالنا، وبعضن لا يستطيع التخلي عن الجدية إلا في رفقة الأطفال. تقول الطبية النفسانية "جوي ميللر": "أن الأطفال يأذنون لنا بإعتاق الطفل الذي بداخلنا".
حانت عطلة نهاية الأسبوع وبقيت لدي رئيس تحري احدي المجلات أعمالاً كثيرة غير منجزة، وكان مسئولاً عن رعاية أبنه ذي السنوات الأربع. صباح يوم العطلة ألتفت الصبر إلى أبيه وقال: "هيا بنا نلعب يا أبي" ... ولكن الأب كان غير مهيئ نفسياً للعب إذ كان قراره نفسه يدي أن الأمر سيكون عبئاً عليه وسيحاول التظاهر بالمرح مع طفله ... إلا أنه قال في بساطة ولم يرد إغضاب الصغير: "هيا بنا!" ... وبدأ الطفل يعرض العابة على والده وتضمنت عطلة نهاية الأسبوع عراكاً مائياً بخراطيم الحديقة وغذاءاَ شهياً وصماماً بهيجاً أبحر خلاله أسطولاً من المراكب البلاستيكية الصغيرة ... وبفعل الحيوية التي أضفاها اللعب أنجز رئيس التحرير عمله في نصف الوقت المتوقع ما وصار بعدها في غاية الدهشة، إذ تأمل ما حدث في الأسبوع السابق، ليجد أن يوم اللهو والمرح مع طفله الصغير قد أمده بالطاقة اللازمة لإتمام ما يجب إتمامه من عمل مؤجل.
اللعب الطفولي دفقاً من الطاقة في من أضناهم الإفراط في العمل؛ فإدخال البهجة قلوبنا يسمح لنا بالاسترخاء والتمتع بأيامنا بدلاً من تحملها كعب، لا يطاق احتماله.
ثالثاً: تعلم منهم التأمل في الدقائق العظيمة وإبداع الخالق في كونه ... إذ يري الأطفال أموراً لا يراها معظم البالغين، وغالباً ما تقود ملاحظاتهم إلى أسئلة توسع مدارك العقل وتشحن الروح، وهم يسألون أسئلة من نوع السهل الممتنع ... أسئلة بسيطة للغاية لكننا لا نجدلها إجابة حاضرة في أذهاننا ... "لماذا السماء زرقاء؟" "كيف تعرف أوراق الشجر الوقت المحدد لتغيير ألوانها؟" "لما تهز الكلاب أذنابها؟" ... تقول مربية سويدية "كنت أشرف على بضعة أطفال تركوا في رعايتي ... فجأة صاح احدهم يناديها وآخر جاء يشدها من زراعها إلى النافذة لتتأمل بطن ذبابة زرقاء اللون تقف خارج الزجاج وهم يتأملون حركاتها الدقيقة الخاطفة في عجب هادئ، مطلقين بين الحين والآخر صغير دهشة، وإذ راقبتهم وراقبت ما كانوا يتأملون تملكتني مثلهم الرهبة والخشوع لعظمة الخالق في مخلوقاته" ... أليس منتهي الكبر والتجديف أن نتجاهل صوراً بسيطة هي آيات لعظمة الله أو نراها ونقول "هذا أمر عادي ... ماذا به؟" ... ولكن مشاغلنا المتكدسة تعطل قدرتنا على التأمل وتقف حائلاً بيننا وبين ما يجب أن نتعلمه من الطبيعة. وكان الفيلسوف الإغريقي (ارسطاطاليس) يقول أن الفلسفة تبدأ بالدهشة ... إذاً، فالأطفال هم الفلاسفة بيننا ... فهم لا يكفون عن التأمل فالآن هاش فالتساؤل طوال الوقت ... وهذه الأسئلة المحرجة تواجهنا منهم في كل وقت من الأوقات ... لكنها تشحن بدورها تأملاتنا، وتجعلنا – مثلهم – نفكر في أسئلة أكبر منا.
رابعاً: لدي الأطفال ميلاً واضحاً للتعاون ومشاركة أترابهم في ألعابهم وأمورهم الصغيرة، وعندما يبلغ الطفل الثانية من العمر تكون قد توفرت لديه نظرة أكثر نظاماً للعب، وعلى الرغم من أنه لم يصل بعد إلى السن التي تجعله يقدر أهمية المشاركة مع الآخرين، إلا أنه يصبح شديد السعي ليوفر لنفسه أطفالاً في مثل سنة ليلعب معهم، وبينما يزادا تعرفاً على نفسه مع هؤلاء الرفاق عن طريق محاولة تقليدهم منافستهم، يبقي بحاجة إلى الكثير حتى يتعلم كيف يتكيف مع آخرين في مثل سنة، ويدرك أن الآخرين لهم حقوقهم التي ينبغي عليه أن يأخذها بعين الاعتبار.
على أن الطفل وهو في سنته الأولى لا يكون قادراً بعد على التعبير عن هذا المدى الكبير من ردود الأفعال التي تحتشد داخله تجاه من يقابلهم بالطبع، غير أنه – وبطريقة تثير الدهشة حقاً – تجده عندما يلتقي بآخر غريب في مثل سنه؛ يقابله على أنه إنسان أكثر شبهاً به من أي شخص آخر سبق وتعرف عليه ... ويمكننا- بالطبع – أن ندرك أن هذا اللقاء لن يترك في الطفل أكثر من بريق سعادة يتبعها اهتمام حذر في هذا السن (مهما كانت درجة ذكاء الطفل)، ويأخذ اهتمام الطفل يتزايد تدريجياً بالأطفال الذين هم من نفس سنه. وهنا يكون على الوالدين توفير وجود هؤلاء الأطفال في مجال الطفل، أو توفير المكان الزمان المناسبين ليلتقي هذا الطفل بأترابه. ومن المفضل في هذه الفترة من عمر الطفل (عمر الثانية) أن نراقبه بعناية، إذا تواجد مع الأطفال من مثل عمره، إذا أن هذا الطفل أيضاً هو في بداية الحاجة إلى ذلك النوع من ومضة السرور والإثارة الذي لا يمكن أن يؤمنه له إلا طفل يماثله تقريباً في السن ... وعليه فأن الأطفال سوف يبدأون على أدراك معني الأخذ والعطاء الذي يكون مغروساً بداخلهم لكنه بحاجة إلى بيئة صحية لينمو ويظهر عليهم.
خامساً: أننا بحاجة إلى أن نتعلم أن نحسم أمورنا ونثق بأنفسنا أكثر ويمكننا أن نأخذ من جرأه الأطفال دارساً مفيداً .. يحكي أحد الآباء قائلاً "عندما كان بني في مرحلته الدراسية الأولى احضر إلى البيت يوماً صورة مرسومة لقطة بنفسجية اللون، رسمها ولونها بنفسه، وقد كتبت المعلمة في أعلى الورقة: "أعد تلوينها مرة أخرى ... القطط لا تكون بنفسجية اللون" فقال لي أبني بإصرار: "ولكن قطتي بنفسجية يا أبي ... لقد تخيلتها هكذا". وقد علقنا الصورة فوق رف المستوقد ميثاقاً لجرأة طفل غامر برؤياه للحقيقة وخاطر بالتمسك بخياله الواسع ... وأحياناً عندما أرتدد بين المخاطرة بفرديتي والطاعة ... أنظر إلى صورة أبني علي الحائط أو أتذكر هذا الموقف السابق منه، تمدني الصورة بالشجاعة فأحسم أخرى فوراً. وعندما يسأل أحد أفراد العائلة أبني عن القطة البنفسجية يقول: "أعرف أن هذه القطة بنفسجية، ولكنها قطتي أنا رغم كل شيء". أن العديد من الابتكارات الفنية والاكتشافات العلمية ينبع من مثل هذه الجرأة الطفولية.
وفي الواقع فأنه من المفيد أن نشجع أطفالنا على التحلي بصفة الشجاعة والجرأة (في حدود بالطبع). صحيح أنهم عندما ينطلقون في الحديث يسببون القلق بسببه كثرة مطالبهم وإلحاحهم المستمر ولكن تذكر أننا نقلق أشد القلق عندما يتأخر الطفل في الكلام عن أقرانه، والطفل الذي يتأخر في الكلام يبدأ في إظهار إحباطه بهمهات أو تعييرات لغوية غير مفهومة أو بعض الأفعال الغير مقبولة كالعصبية يحبط الأشياء وإلقاء نفسه على الأرض وغير ذلك.
وأخيراً: تحكي سيدة أن زوجها قد أدخل المستشفي ذات مرة واضطرت إلى إعداد أغراضها لتمضي عطلة المرض معه هناك ... لقد تملكها الشك والخوف، وكانت أبنتها ذات السنوات الأربع تلهو بدراجتها في الحديقة فاصطدمت بجذع شجرة هنا، وراحت تصرخ منادية أمها، ثم جادلتها رافعة ركبتها المقشورة الجلد كي تريها لأمها، وسألتها: "ولكن يا أماه ... من سيعتني بجروحي في غيابك". وبعد لحظة صمت غمغمت الأم: "لعل المربية سوف ..." ولكن الطفلة قاطعت أمها وقالت: "كلا ... أنني أعرف الإجابة ... أن الله سوف يرعاني" ... ثم ابتسمت الطفلة وعادت إلى دراجتها وعادت إلى اللعب في الحديقة. وبعبارة الطفلة الصغيرة الأخيرة أحيت إيمان والدتها البسيط الثابت ليزداد فجأة ويقوم اهتزازه ... وزال كل قلقها وخوفها على زوجها، وذهبت إلى المستشفي بقلب أكثر شجاعة نعم، أن فطرة الأطفال النقية تعرف الله وتؤمن بوجوده وقدراته، كما أن ذرات الشك لا تلوث هذه الفطرة أبداً، إذ لازال العقل سليماً، ولازالت الروح بكراً.
ونحن بحاجة بالفعل إلى أن نجعل إيماننا ثبات كما هو لدي أطفالنا، ونزيل عن روحنا القلق وذرات الخوف والتوجس التي ترسبت من تجاربنا السابقة، وننقي سريرتنا من غياب أعباء الحياة اليومية.
وأن أعظم حكمة نتعلمها من عقل وقلب الطفل هي أن "أطلقوا عنان أنفسكم وأحبوا!" ... ذلك أن المرء لا يري الحق إلا بقلب ... وليس كالأطفال مميزون في البصيرة القلبية.

شارك على جوجل بلس

.

    اكتب تعليق بحساب بلوجر
    اكتب تعليق بحساب فيسبوك

0 Post a Comment:

إرسال تعليق