د. هاني حجاج
hany_haggag@hotmail.com
المعروف لدينا
جميعاً أن مرحلة الطفولة هي أهم فترة زمنية تمر في حياتنا؛ ففيها تتشكل قطعة
الصلصال التي تمثل شخصيتنا ثم تنضب وتجف فيما بد، ومن الوجهة النفسية هي أخطر
مرحلة كذلك، كما أن أقل خدش يضر بالبراعم الصغيرة.
وفي هذه الفترة
توضع اللبنة الأساسية لشخصين الإنسان – الطفل – وتحدد الخطوط الرئيسة الموجهة
لمسار حياته فيما بعد، وتبذر البذور الأولى لجميع خواص مراحه، تلك البذور والتي
تنبت وتؤتي ثمارها – الحلوة أو المرة – في كل الأطوار التالية من حياة المرء.
ومن الأمور
المحقق المقطوع بها عملياً أن البداية هي الأساس، وسنوات المهد والصبا نقطة
الارتكاز الأولى للإنسان ...
واخطر كلمة في
حياة الطفل في هذه المرحلة هي كلمة (العجز)!
فالطفل من
اللحظة الأولى وحتى عدة سنوات بعد ذلك يظل عاجزاً عن فعل أي شيء، ويبقي معتمداً
بشكل كلي تقريباً على الآخرين (والديه في الغالب) في الطعام والمسكن والأمان
والصحة والتسلية ... الخ. وبسبب هذا الاحتياج الذي لا يمكن إنكاره فهو يشعر بأنه
(عاجز) وأنه لو رفض هؤلاء المحيطين به العناية بمطالبه لأنتهي لأنه ليس بقادر على
تنفيذ أي منها بمحص إرادته الخاصة ... لهذا فإن أول ما يستقر في ذهن الطفل هو عجزه
وحاجته الدائمة إلى غيره.
على هذا طبيعي
إلى هنا؛ ... ولكن ليس كل الأطفال يصابون بـ (مركب نقص)، بل هي عدة حالات خاصة لا
يشترك فيها جميع الأطفال ... وهذه الحالات هي:
- الشعور بالنقص الجسماني.
- التدليل المفرط.
- الهجران.
وبالنسبة للحالة الأولى فإن دراسة (بيران فولف) في هذا
المجال كان بها الكفاية، ... إذ لاحظ أن أي اختلاف عن المألوف قد يسبب الشعور
بالنقص ومن ثم تتكون عقدة النقص لهذا الشخص، خاصة إذا كان هذا النقص أو الاختلاف
في الشكل محل سخرية أو موضع اضطهاد من الآخرين خلال مرحلة الطفولة.
ومن أمثلة هذه الاختلافات: بروز في الفك أو أفق ضخم أو
قصر مفرط أو بدانة أكثر من اللازم أو صول في العينيين أو تساقط في الشعر أو ... أو
...
بل أن المجال الزائد أو الوسامة الشديدة أحياناً عاملاً
في إصابة الطفل بمركب نقص إذا ما كانت سبباً في أثارة التعليقات بكثرة أو المضايقة
واللاحقة بالمداعبات ...
كما قلنا فأن (الاختلاف) هو السبب الأساسي في (مركب
النقص) ولا يشترط أن يكون هذا الاختلاف (نقصاً)!
ولا يمكنك أن تلقي باللوم على رفقاء الطفل لكثرة
تعليقاتهم المحرجة أو دعاباتهم السجن، فالمعروف أن (الحيوانات) و(الأطفال) هما
المخلوقين الذين لا يعرفان الرحمة من بين جميع المخلوقات، هذه الحقيقية التي أقرها
الشاعر الفرنسي (لافونتين) أثناء دراسته لنفسية الحيوان والإنسان.
فمتى وجد الأطفال في زميل لهم نقطة ضعف أو نقص واضح أو
(اختلاف) شديد، استغلوا ذلك فوراً بتلقائية شديدة، وانهالوا عليه بلا هوادة أو
شفقة (خاصة إذا كان عاجزاً عن المقاومة): الطفل البدين مثلاً لا يستطيع الفرار من
الصبية الأشرار، وربما تعثر الطفل الأحوال كثيراً في مشته، زعك من الطفل المشلول
أو مبتور الأطراف ...
وتكون المرحلة التالية هي (كبت) كل ذلك العدوان الذي
يلاقيه من زملائه بداخله؛ لأن غر قادر على الانتقام ... وهذا الكبت يخلق كراهية
عاتية (ربما للبشر عموماً) ومركب نقص خطير.
هنا تجب العناية بأن يتاح للأطفال التنفيس عن آلامهم
التي تسبها سخرية الآخرين وليس بالضرورة أن يكون برد العدوان وإنما بأي رد فعل من
شأنه (رد اعتبار) الطفل الضعيف أمام (نفسه) وتضميد جرح كبرياؤه. وأن يشعر من
جانبنا بالعطف والفهم والاهتمام.
أما بالنسبة للتدليل المفرط وهو المثال الثاني للشعور
بالنقص. والسؤال الطريف هنا:
ü ولكن ما الذي ينقص الطفل المدلل، إنه يحصل على كل شيء في
أي وقت دون عناء؟
والإجابة هي:
ü إن هذا الطفل ينقصه الكثير في الواقع، ينقص شيء هام جداً
اسمه (الاعتماد على النفس)!
فالطفل المدلل قد اعتاد منذ نعومة أظفاره علمه أن يجد كل
مطالبه موضع اهتمام وتنفيذ مهما كانت هذه الاحتياجات سخيفة وتافهة، إذا أراد نوعاً
غريباً من الطعام الغير موجود على المائدة لأسرعت أمه بإعداده، لو طلب لعبة غالية
الثمن لمجرد إرضاء نزعه استبدادية لاشتراها له الأب فوراً، وربما يكون هذا التدليل
من ناحية الوالدين له العديد من الدوافع، منها أن يكون هذا هو ابنها الوحيد أو أن
احد الوالدين غير مقدر له (لأسباب طبية) الإنجاب مرة أخرى، أو أن هذا هو الابن
الأصغر (آخر العنقود) كما يقولون.
وهكذا (من فرط التدليل) أو (الحب) من وجه نظر الأب أو
الأم، يخلقان دكتاتوراً بالمنزل وبين أفراد أسرته، والمؤسف أن هذا الدكتاتور هو
أكثر المتأثرين بتوابع هذه الكارثة ... فلا جرة لدي هذا الطفل بأهمية الأشياء ...
بأولوية الحصول على غرض ما على الآخر ... لا إحساس لدية بالمسئولية أو مواجهة
المشاكل أو التصدي للصعوبات، ويماً ما يجد نفسه مطالباً بالسباحة في بحر الحياة
العنيف دون أن يتعلم كيف يقفز في الماء البارد الملء بالمواجهات والتحديات!
الطفل المدلل يواجه حقيقة النقص المتركب بداخله بشكل
أقصى مما يواجهه الطفل المعوق أو العاجز أو المريض، إذ أن الطفل المعوز أو الضعيف
يكشف حقيقته المؤلمة مبكراً ويعتاد عليها أو يبدأ في مقاومتها، لكن الطفل المدلل
يظل (مخدوعاً) لفتة طويلة – ربما سنوات – نائماً في عسل الحلم الوردي بأنه لا يوجد
طفل سواه وبأنه أحلامه أوامر وبأن الواجب المفروض على أمه وأبيه فقط هو تلبية
رغباته.
ثم يتلقى هذا الطفل أول صدمة في حياته عندما تدمي رأسه
صخور الواقع الصلبة ويكشف بطريقة أو بأخرى أنه ليست الطفل الوحيد على ظهر الأرض
وانه ليس محتكراً للعطف والحنان من الجميع. وأشهر تلك الحالات (الكاشفة لحقيقة
وضعه المؤسف هو زيادة طفل آخر للأسرة وعندما يولد له أخ أو أخت أصغر منه يسرقان
منه التدليل والحب!
إنه يرى نفسه كملك انزلوه من فوق عرشه ووضعوا بدلاً منه
ملك جديد أصغر وألطف في مركز الصدارة، ويتراوح رد الفعل صعب شخصية الطفل المدلل،
فهو أما يكتب هذا الغيظ بداخلة لينفجر في وقت متأخر فيما بعد ... أو أنه يمارس
عدوانيته تجاه الطفل الجديد وكراهيته لوالديه.
الحقيقة المؤلمة الثانية هي أنه عندما يشب رجلاً أو تنضج
لتصير أنثي كاملة، فإن هذا الشاب وهذه الفتاة ينتظران من المجتمع أن يعاملهما بنفس
الكيفية التي كانا يجدانها في حجر والديهما وأن تلبي كل رغباتهما، أو على الأقل
يجب أن يكون الطريق مفروشاً بالورود ليستطيع هو أو هي إنجاز أحلامه! والنمو
النفسي في هذه المرحلة يتركز في مهمتين أساسيتين: أولا: هي أن الهو
والأنا والأنا العليا تبدأ في العثور على توازن متبادل في الفرد يمكن أن يصير وحدة
نفسية متكاملة، أو شخصية لها حقوقها الخاصة ... وابتداء من هذه اللحظة، يضفي نموه
تشديداً على علاقته بأبوية وأقرانه وغيرهم من الأشخاص في عالمة المستمر في التمدد.
ثانياً: أن المخلوق الصغير السن يبدأ في ملاحظة فروق جنسية بين أفراد
بيئته، الأمر الذي يؤثر عليه في مشاعره (دوافع الهو) وفي المنهاج الذي يجب عليه أن
يتبعه تبعاً للمتطلبات الاجتماعية في مجتمعه، أي أن متطلبات ذاته والمعايير
الاجتماعية للأسرة تتنافس عادة مع دوافع الهو. والطفل الآن يواجه فترة تعلم
نشطة تقوده من خلال إمكانيته إلى احتمالات المستقبل. ويشترك الطفل معظم الوقت مع
أطفال من سنه، وهو يدخل دخولاً نشطاً في حياة الآخرين، وبالتالي يواجه العديد من
الخبرات. والأهم من ذلك أنه يري نفسه-أنه يتعلم، ويشارك، ويخوض التجارب-كولد أو
كبنت، وفي نفس الوقت فأن الطفل لا يستطيع أن يتنصل من حقيقة أن تعلمه، واتصالاته
الاجتماعية وتجربته، تولد أفكاراً جديدة ومشاعر جديدة، وأفعالاً تصورية أو واقعية،
الأمر الذي يهيئ له حداً جديداً للإحساس بالذنب. وعادة ما يخشي الطفل أن يكون
تجاوز حدوده، وهذا في الواقع هو ما يفعله عادة. وهو يواصل السؤال عن وظيفته
الجنسية: ترى هل يعتبر سلوكه متماشياً مع ما هو متوقع من جنسه؟ هل من الصواب
أنه-(وبشتى الطرق) لا يزال يحس ويتصرف كطفل من الجنس الآخر؟؟ وهل يصح (فيما يتعلق
برغباته الجنسية)، أنه لم يعد يشعر كطفل؟؟ وهكذا فأن هذه المرحلة تخلق لحظات من
الشعور بإحساس الانجازات الحقيقية، ولحظات يتولد فيها الخوف من الخطر والإحساس
بالذنب.
حسب مفاهيم علم النفس التحليلي تتميز مرحلة النمو هذه
بمضاعفات (أوديبية) نسبة إلى أوديب الإغريقي، وكلمة أوديب تعني غليظ الفخذ!... في
كتاباته الأولى، يتقبل "أريكسون"، الذي أفاض الشرح في هذا المجال، رأي
فرويد بشأن الأزمات الخاصة بالنمو بالنسبة للطفل ووالديه (وخاصة أيهما من الجنس
الآخر)، وللأسرة كممثلة للتقاليد الاجتماعية. وفيما نشره حديثاً، يتساءل أريكسون
عن التعميم والمبالغة في التبسيط للناشئين عن تفسير الآخرين لمفهوم فرويد بشأن
عقدة أوديب. ويلاحظ أنه لا شك في مسألة التعلق بالجنس الآخر؛ ولكنه (أو هي) كان
حتى الآن كل شيء بالنسبة للطفل والممثل "الصادق" والوحيد لمجموعته (أو
مجموعتها الجنسية). ومما تجب ملاحظته أن هذه التصارعات نحو الجنس الآخر تحدث في
الوقت الذي يكتشف فيه الطفل أنه أصبح معدوداً ضمن مجموعة أسرية، وأنه يستطيع أن
يبدي شعوراً وجدانياً قصدياً. أن هذا التجاوز الوجداني من جانب الطفل لا يعتبر من
الفاحشة بالنسبة للمعتقدات الغربية، ولكنه يتضمن حقيقة أن الحب يصل دائماً إلى
الشخص الذي استحقه والموجود فعلاً. أن الصبي يميل إلى القرب من أمه. وهي أقرب
موضوع للحب، وذلك لأنها هي التي هيأت له الراحة الدائمة. والأم تكون مستعدة لقبول
وتشجيع تعلق أبنها، لأنها هي أيضاً تحس بالذكورة فيه- الرحل الذي سيصيره. وفي نفس
الوقت فأن المجتمع يتحدى الصبي أن يحول تحقيق ذاته إلى أبيه، وهو عادة يشعر بأنه
من السهل أن يعجب بأبيه، وذلك لأن الأب يمثل رموز الذكورة (سلوك الأنا وقيم الأنا
العليا) التي تعتبرها ثقافته (وخاصة ثقافة منزله وموطنه) من المرغوب فيها ومما
تدعو للإعجاب بها. أما البنت، فأنها تميل أكثر لتوجيه رغبتها إلى الرجال كأهل
للثقة وأقربهم مثالاً لها من (هو عادة الأب) ومرة أخرى فأن ذلك يتضمن مسألة القرب
أكثر مما يتضمن مسألة الفحشاء (بالمحارم). أن علاقة البنت الأوديبية تبعد درجة عن
علاقة الولد. وذلك لأن رغباتها لا ترتبط عادة بنفس الشخص الذي اعتمدت عليه في فترة
طفولتها الاعتمادية، أن علاقتها الأوديبية بأبيها علاقة رومانسية (تفكير
–هيام –دلال أنثوي)، في حين أن تحقيق ذاتها يستمر مع الأم، التي ترمز لكل ما هو
متجسد في صراعاتها نحو الأنوثة. وعندما يجد الصبي أو البنت تعلقاً عاطفياً بأحد
الوالدين من الجنس الآخر، فأنه-أو هي-يميل للتعبير عن عدم الثقة بكل من يتدخل في
هذه العلاقة الجديدة. ومرة أخرى، تبعث الإحساسات القديمة بعدم الثقة عندما يحس
الطفل بالطابع الرقيق لهذه العلاقة الجديدة. وبالطبع ينشأ إحساس بالتنافس مع أحد
الوالدين من الجنس الآخر، يؤدي إلى نتيجتين مترابطتين تتضمن أحداهما: الإحلال
التدريجي "للمرغوب فيه" (الأب أو الأم) بموضوعات حب أخرى أقرب مثالاً،
أي الأشخاص الذين يمكن أن يكونوا أمن استقبالاً لهذه الطاقة الانفعالية
(العاطفية)، ذلك لأن الطفل عادة يجد والديه أبعد من أن يتوصل إليهما عاطفياً.
والنتيجة الثانية ترتبط بإدراك الطفل الأكثر ملاءمة للواقعية. ويزداد اعتقاده بعدم
المساواة بينه وبين منافسة الأب (أو الأم) في النواحي الجسمانية والاجتماعية
والجنسية. وهنا تفرده هذه العوامل للعثور على تجارب واقتناعات جديدة بالاتصال بمن
هم أقرب إلى سنة. وبينما يتم استبدال الأب (أو الأم) بنجاح كموضوع حب، يصبح موقفه
أو موقفها أكثر وضوحاً كذات مثالية للجنس الآخر. ويصبح الأب أو الأم، من نفس
الجنس، النموذج للذات العليا. وهو يحاول أن يحقق طموحات هذا الأب أو الأم، من نفس
الجنس، النموذج للذات العليا. وهو يحاول أن يحقق طموحات هذا الأب أو الأم، ولكنه
قلماً ينجح في ذلك. والأهم من هذا أنه يستخدم الأب أو الأم، من نفس جنسه، كمحقق
أكبر للذات.
الطفل ينمو بشكل تكاملي إلى وحدة جسمانية ونفسية شاملة
مستقلة ذاتية كما ينبغي لها أن تكون، ويصبح الطفل الصغير هو ذاته. وهو يختبر
استقلاله الآخذ في الظهور والاتساع بالنسبة لمختلف أوجه بيئته المباشرة والآخذة في
الاتساع. ويستطيع الطفل تدريجياً أن يكتسب نظرة متفحصة في المؤسسات والفرص
والوظائف مما يسمح له بالمشاركة المرتقبة والمسئولة كبالغ. وهو يجد انجازاً ساراً
في تناول اللعب ذات المعني، وفي تشكيل الأدوات، وفي الاضطلاع بالمسئولية عن نفسه
وعن الأطفال الأصغر منه سناً. ويؤدي عدم نجاح الطفل في الانتماء لأحد والديه ودفع
الريادات الأخرى، يؤدي إلى النجاح أخيراً في مختلف مهام الحياة. وتسمح له طاقته
العظيمة (من استعداد نفساني شديد المرونة إلى طاقة بدنية هرمونية إلى حيز عاطفي
فكري هائل) بنسيان الفشل سريعاً، والبدء من جديد بمجهودات أفضل توجيهاً. ويجد أنه
كان يتحرك في الاتجاه الصحيح ولو كان ذلك في الوقت غير المناسب. وسرعان ما تجد
معظم مشاعر الذنب والاحساس الفشل تعويضاً بإحساس إنجازي ... فيتأكد المستقبل في
مواجهة الماضي. أن المستقبل يغفر للماضي.
0 Post a Comment:
إرسال تعليق