هاني سيد أحمد
يعد اضطراب الذاتوية Autism واحد من أكثر الاضطرابات النمائية شدة، والأطفال ذوي الاضطراب لا يعانون فقط من بطء النمو، ولكن لديهم أيضاً اختلافات كيفية مقارنة بالأطفال الآخرين، بل إنهم يختلفون عن الأطفال المصابين بإعاقات نمائية أخري خاصة في المجال الاجتماعي، ومجال التواصل وبالتالي فإن لديهم احتياجات استثنائية ومن المعترف به عموماً أن الأطفال ذوي اضطراب الذاتوية يحتاجون إلى علاج خاص بشكل مبكر جداً لتحقيق أفصل النتائج العلاجية.
والذاتوية اضطراب ارتقائي حاد، ويحتاج إلى الفهم فهو غالباً ما يؤدي إلى خلل شديد في قدرات الشخص، وتتراوح إعاقاتهم في التواصل والفهم ما بين المستوي الحاد والبسيط ، أما من ناحية المظهر العام والناحية الجسدية فإنهم طبيعيون، وحوالي (75%) من الأشخاص ذوي اضطراب الذاتوية مصنفون تحت الإعاقة الذهنية، وأكثر سمة مميزة تساعد على التعرف عليهم هي أنهم يبدون منعزلين عن العالم من حولهم .
وكل طفل من ذوي اضطراب الذاتوية هو حالة فردية خاصة، ويختلف في العديد من النواحي عن غيره من أطفال نفس الحالة، ويرجع ذلك إلى اختلاف درجة الحالة عند كل طفل، حيث يمكن أن تتراوح ما بين طفيفة جداً إلى حادة جداً ، كما أن لكل طفل شخصيته الخاصة التي تنجح في الظهور بطريقة ما برغم إعاقته.
ويعتبر اضطراب الذاتوية بمثابة اضطراب نمائي عام أو منتشر Pervasive Developmental Disorder ، ويستخدم مصطلح الاضطراب النمائي العام أو المنتشر في الوقت الراهن للإشارة إلى تلك المشكلات النفسية الحادة التي يبدأ ظهورها خلال مرحلة المهد ويتضمن هذا الاضطراب قصوراً حاداً في نمو الطفل المعرفي، والاجتماعي، والانفعالي، والسلوك مما يؤدي بطبيعة الحال إلى حدوث تأخر عام في العملية النمائية بأسرها إذا يرجع تسمية هذا الاضطراب بالمنتشر على انه يترك آثار سلبية متعددة على الكثير من جوانب النمو المختلفة.
أن اضطراب الذاتوية قد أصبح في الوقت الحالي يمثل أكثر هذه الاضطرابات شيوعاً في المجالين البحثي والإكلينيكي واتضح من خلالهما أن ذوي اضطراب الذاتوية يظهرون أوجه قصور شديدة في التفاعل الاجتماعي، وإقامة العلاقات مع الآخرين، واللعب، والتواصل وتعمل أوجه القصور هذه على جعل هؤلاء الأطفال يمثلون فئة تتميز عن غيرها من الفئات الأخرى.
ويعد هذا الاضطراب الاضطرابات الدائمة، ويتطلب مراقبة مستمرة، وإشرافاً دائماً من أفراد العائلة وبخاصة الوالدين، مما يزيد من الأعباء الملقاة على عاتقهم ومما يزيد من صعوبة هذا الاضطراب أن للتعليم غير المتخصص دوراً محدداً في رفع قدرات الطفل ومهاراته فالأمر يحتاج إلى تعليم خاص.
نظرة تاريخية : Historical perspective
لكي نفهم اضطراب الذاتوية فمن الضرورى أن ننظر إليه نظرة تاريخية، فهذا الاضطراب مر بتطورات عديدة منذ اكتشافه وحتى الوقت الراهن ورغم ذلك مازال يكتنفه الكثير من الغموض.
ومن المرجح أنه كان هناك على الدوام أطفال من ذوي اضطراب الذاتوية، ففي عام (1799) تسلم طبيب فرنسي يدعي " إتارد " طفلاً يبلغ الثانية عشرة ويدعي " فيكتور " (الصبي المجنون من غابات الآفيرون ) والذي عثر عليه يعيش عائماً في الغابة ، وكان سلوكه شاذ واعتقد أتارد " أنه متخلف لأنه ظل معزولاً عن الناس منذ صغره ، بينما عارض " بينيل " ، Pinel ذلك – وهو طبيب مشهور في ذلك الحين – ورأي أن الطفل ولد متخلفا منذ البداية ، وبقراءة ذلك في الوقت الحاضر نلاحظ أنه من الممكن أن يكون تصرف " فيكتور" على ذلك النحو مماثل لتصرف طفل ذي سلوك ذاتوي .
واقترح البعض أن فيكتور كان ذاتوياً لأنه قد هجر منذ الطفولة، وعلى ما يبدو أنه قد عزل عن والديه أو نبذ من قبلهما في فترة ما بعد الثورة الفرنسية لأنه كلن ذاتوياً يصعب التعامل معه وليس لسبب آخر .
وقد كان أول طبيب نفسي يهتم بمثل هذه الاضطرابات التي تسبب اضطرابات عقلية شديدة لدي الأطفال هو " هنري مودزلي " ( Maudsly ) عام (1867) وكان يعتبرها ذهانات.
وفي عام 1919 كتب " لايتنر ويتمر " ( Lightner Witmer ) وهو أخصائي نفسي أمريكي مقاله عن " دون " وهو طفل يبلغ من العمر عامين وسبعة شهور / والذي كان يتصرف كطفل ذاتوي .
ويشير كلاً من ( Frith , Gillberg and coleman 1992 ) على أن اضطراب الذاتوية تم التعرف عليه قديماً في مجتمعات مختلفة كروسيا والهند وخلال أزمنة مختلفة .
وفي عام 1943 قام " ليوكانر " Leo Kanner الطبيب النفسي الأمريكي بوصف إحدي عشر طفلاً بأنهم لم ينمو بشكل طبيعي في علاقتهم بالآخرين، ولديهم قدرات محدودة في اللغة ويقومون بممارسة سلوكيات قهرية مرات عديدة، وأطلق " كانر " مصطلح ذاتوية الطفولة Infantile Autism لوصف هذا الاضطراب ويشبه هذا الاضطراب، الاضطرابات الذهانية في الطفولة مثل فصام الطفولة Childhood Schizophrenia ) وزملة الذهان التكافلي" السمبيوزيSympiotic psychoses syndrome ) من حيث الاضطراب الحاد في السلوك على المستوي الوظيفي النفسي، واالشخصية البينية وأيضاً الميول الانسحابية ومشكلات التواصل التي تعد شديدة الصعوبة.
وقد اعتبر " كانر " هذا الاضطراب زملة من الأعراض المميزة بسببها بيولوجي.
ولاحظ " كانر " أن الطفل ذو اضطراب الذاتوية لديه عجز في الاتصال بالآخرين تقريباً منذ بداية الحياة، ووصف الوالدين أطفالهم لكانر بأن الطفل يكون مكتفياً ذاتياً وسعيد عندما يترك بمفرده، ويشبه القوقعة.
وتعد محاولة " ليوكانر " أول محاولة في الأدبيات لوصف اضطراب الذاتوية.
وفي عام (1942) أي قبل كتابة " كانر " عن الذاتوية بسنة واحدة أصدر اثنين من الأخصائيين النفسيين هما " جيزيل و"أما تريدا " ( Gesell & Amatreeda ) كتاب ( ارتقاء الطفل ) وتضمن هذا الكتاب وصفاً مختصراً للأطفال الذين يعانون من خللاً في التفاعل الاجتماعي والتواصل مع تكرارية السلوك، ويبدون من حيث المظهر العام طبيعيين، هذه المجموعة كان من الواضح تماماً أنها تشبه وصف " كانر ".
وكلاً من " كانر " من جانب ، و "جيزيل وأما تريدا " من جانب أخر تعرف على هؤلاء الأطفال بوصفهم لديهم أنماط سلوكية خاصة، ولكن " كانر " اعتقد أنه من المحتمل أن يكونوا هؤلاء الأطفال طبيعيين بل فائقي الذكاء، بينما " جيزيل " وأما تريداً " اعتبرا أن درجات ذكاء معظمهم أقل من (50).
وفي عام (1944) اكتشفت الطبيب النمساوي(Asperger ) مجموعة من الأطفال النمساويين خصائصها متشابهة إلى حد ما لأطفال " كانر " ولكن لم تنتشر أخبارها كما انتشرت أخبار اكتشاف " كانر " في أمريكا بسبب الحرب العالمية الثانية، حتى وصل خبرها إلى الطبيبة النفسية(L.Wing ) التي كانت لها ابنة تعاني من اضطراب الذاتوية فنشرت بالإنجليزية ترجمة تقرير(Asperger ) وعرفت تلك الحالات باسم " اسبرجر"(A.P.A.1994 ) نظراً إلى وجود بعض الاختلافات بينهما وبين أعراض حالات " كانر " التي كان يطلق عليها الذاتوية Autism .
وقد أطلق على مجموعة أسبرجر في البداية السيكوباتية الذاتوية ثم استخدم ديجبي تاتنام Digby Tantam في نشرته بجمعية الذاتوية الدولية تعبير زملة أسبرجر Asperger Syundrome .
ومنذ تاريخ وصف " كانر " لاضطراب الذاتوية استخدمت تسميات مختلفة لهذا الاضطراب مثل ذاتوية الطفولة المبكرة (Early Infantile Autism) أو (Early Childhood Autism)، ذهان الطفولة (Childhood Psychosis)، نمو غير سوي (Atypical Development )، نمو أنا غير سوي (Atypical Ego Development) وهذه التسميات المختلفة تعكس التطور التاريخي للذاتوية واختلاف اهتمامات وتخصصات المهنيين المهتمين بهذا الاضطراب وبالإضافة إلى ذلك فإن استخدام عدد من التسميات كان بسبب غموض وتعقد التشخيص الفارقي لاضطراب لذاتوية.
ومن الناحية التاريخية استخدم مصطلح الذاتوية في البداية في ميدان الطب النفسي عندما عُرف الفصام، خاصة فصام الطفولة، وفي ذلك الوقت كان يستخدم مصطلح الذاتوية لوصف صفة الانسحاب لدي الفصاميين، ثم يعد ذلك أصبح يستخدم كاسم للدلالة على اضطراب بأكمله .
وكلمة ذاتوية Autism لا تستعمل كثيراً في اللغة الإنجليزية أثناء الحديث ولهذا فهي كلمة منفردة في معناها واستعمالها، وقد يكون هذا هو سبب اختيار "كانر " لإطلاق هذا الاسم على هذا الاضطراب وبدأت من بعده الأبحاث الطبية والنفسية لسبر غور هذا الاضطراب العجيب .
وعلى الرغم من أن " كانر" قام برصد دقيق لخصائص هذه الفئة من الأطفال وقام بتصنيفهم على أنهم فئة خاصة من حيث نوعية الاضطراب وأعراضه التي تميزه عن غيره من الإعاقات في عقد الأربعينيات فإن الاعتراف به كفئة يطلق عليها مصطلح الذاتوية Autism لم يتم إلا في عقد الستينيات حيث كانت تشخص حالات هذه الفئة على أنها نوع من الفصام الطفولي، وذلك وفق ما ورد في الدليل الإحصائي لتشخيص الأمراض العقلية في الطبعة الثانية (D.S.M.2 ) ولم يتم الاعتراف بخطأ هذا التصنيف إلا في عام (1980) حينما نشرت الطبعة الثالثة (DSM 3) والتي فرقت بوضوح بين الفصام والذاتوية.
وفي التصنيف العالمي العاشر الاضطرابات العقلية والسلوكية (ICD10) والصادر عن منظمة الصحة العالمية (1991) يصنف الاضطراب الذاتوي تحت فئة اضطرابات ارتقائية منتشرة Pervasive Developmental Disorders، وفي دليل التشخيص الإحصائي الرابع للأمراض العقلية (D.S.M.IV ) والصادر عام (1994) يصنف تحت نفس الفئة اضطرابات ارتقائية منتشرة.
أما في دليل التشخيص الإحصائي الخامس للاضطرابات العقلية والمتوقع صدوره في مايو المقبل 2013 أي بعد حوالي أقل من شهرين من كتابة هذا المقال فسوف يكون اضطراب الذاتوية تحت قسم الاضطرابات النمائية العصبية Neurodevelopment Disorders، وسوف يكون اضطراب الذاتويةAutism، و اضطراب أسبرجر Asperger’s، واضطراب الطفولة التفككيchildhood disintegrative disorder، والاضطراب الارتقائي العام غير المحددpervasive developmental disorder-not otherwise specific (PDD-NOS) تحت مسمى تشخيصي أو فئة تشخيصية واحدة هي اضطراب طيف التوحد Autism spectrum disorder ويطلق عليه اختصاراً ASD.
وإذا نظرنا إلى البحوث في مجال اضطراب الذاتوية سنجدها توجهت في البداية على دراسة صفات وخصائص الأطفال والوالدين حيث كان يعتقد أن سبب الذاتوية العلاقة المرضية الشديدة بين الطفل وأمه، وإلى الاتجاهات السلبية من الوالدين اتجاهه، أما في الوقت الحاضر فإن الافتراضات السابقة أصبحت مشكوك فيها وثبت خطأها وأصبحت من التراث، وإنما أصبح التأكيد على أهمية الدور الذي تلعبه الجوانب المعرفية والاضطرابات النمائية لدي الأطفال الذاتويين أنفسهم، وقد أجريت دراسات عديدة اهتمت بفحص الجوانب العصبية والبيولوجية والبيئة لتحديد أسباب الإصابة وأسفرت نتائج هذه الدراسات إلى الاعتقاد بوجود خللاً وظيفياً في الجهاز العصبي المركزي بسبب عوامل لم تزل غير معروفة حتى الآن هي السبب في حدوث اضطراب الذاتوية، هذا فضلاً عن الجهود البحثية الجينية، وأصبح ينظر إلى الذاتوية على أنها اضطراب يبدو دائماً في شكل زملة أعراض.
وتجدر الإشارة إلى أنه منذ تعرف " كانر" على اضطراب الذاتوية وتصنيفه كاضطراب مختلف عن التخلف العقلي أو الفصام وغيرهما، وحتى وقت قريب لم يحصل ذوي اضطراب الذاتوية على خدمات متكاملة تحقق لهم الاندماج الطبيعي في مجتمعاتهم أسوة بأقرانهم من أصحاب ذوى الاضطرابات والإعاقات الأخرى، وخاصة في وطننا العربي، ولذا يجب أن تكثف الجهود على مستوى الحكومات والجمعيات الأهلية من اجل تقديم خدمات أفضل لذوي اضطراب الذاتوية وأسرهم خاصة ان نسبة الاضطراب في تزايد بلغت 1 في كل 88 طفل، أي طفل من ذوي اضطراب الذاتوية كل 88 ولادة حية.
فالأمر يحتاج إلى الاهتمام.
مع أرق تحياتي
0 Post a Comment:
إرسال تعليق